حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء (2)علي محمد الصلابي
رابعاً: موقف يزيد من أحداث الكوفة:لما تأكد ليزيد تصميم الحسين على الاستجابة لدعوة أهل الكوفة، كتب لابن عباس؛ لأنه شيخ بني هاشم في عصره وعالم المسلمين، قائلاً: ونحسب أن رجالاً أتوه من المشرق فمنَّوه الخلافة، فإنه عندك منهم خبرة وتجربة، فإن كان فعل فقد قطع وشائج القرابة، وأنت كبير أهل بيتك، والمنظور إليه، فاكففه عن السعي في الفرقة. ثم كتب بهذه الأبيات إليه وإلى مكة والمدينة من قريش:
يا أيها الراكب الغادي لطيته *** على عُذَاقِرةٍ في سيرها قحم
أبلغ قريشاً على نأي المزار بها *** بيني وبين حسين الله والرحم
إلى أن قال:
يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خمدت *** وأمسكوا بجبال السلم واعتصموا
لا تركبوا البغي إن البغي مصرعه *** وإن شارب كأس البغي يتخم
قد غرَّت الحرب من قد كان قبلكم *** من القرون وقد بادت بها الأمم
فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً *** فرب ذي بذخ زلت به القدم
فكتب إليه ابن عباس: إني لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كل ما يجمع الله به الألفة وتطفي بها الثائرة.
وفي تلك الأثناء كانت الأحداث تتسارع، وذلك بعدما أخذ الشيعة يختلفون على مسلم بن عقيل ويبايعونه، وعندما أحس النعمان بن بشير الأنصاري والي الكوفة بخطورة الوضع، قام، فخطب في الناس، وقال: اتقوا الله عباد الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة؛ فإن فيها يهلك الرجال، وتسفك الدماء وتغصب الأموال، وقال: إني لم أقتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب عليَّ، لا أشاتمكم ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة والتهمة، ولكن إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل.
وأشارت سياسة النعمان بن بشير - رضي الله عنه - مع أنصار الحسين حفيظة الناصحين للأمويين، وأحد الموالين لهم في الكوفة وهو عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي، حليف بني أمية، فقام إلى النعمان بن بشير وبين له أن طريقته هذه إنما هي طريقة المستضعفين وأنه يجب عليه أن ينهج سياسة البطش والقوة حيال المتربصين بأمن الكوفة، ولكن رد النعمان بن بشير - رضي الله عنه - كان واضحاً بأنه يراقب الله في سياسته.
ولم تعجب يزيد سياسة النعمان فعزله من ولاية الكوفة، وعيَّن بدله عبيد الله بن زياد وكتب إليه: إن شيعتي من أهل الكوفة كتبوا إليَّ يخبروني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع؛ ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه، أو تقتله أو تنفيه، والسلام.
وغادر ابن زياد البصرة بعد أن اتخذ عدة احتياطات؛ خوفاً من حدوث اضطرابات، وأناب عنه أخاه عثمان بن زياد على البصرة، ثم خرج من البصرة ومعه وجوه أهل البصرة أمثال مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته.
وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ودخلها متلثماً والناس قد بلغهم إقبال الحسين إليهم، فهم ينظرون قدومه، فظنوا حين قدم عبيد الله أنه الحسين بن علي، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول الله، قدمت خير مقدم، فلما أكثروا عليه صاح فيهم مسلم بن عمرو وقال: تأخروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد فلما نزل في القصر نودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فخرج إليهم، ثم خطبهم ووعد من أطاع منهم خيراً، وتوعد من خالف وحاول الفتنة منهم شراً.
خامساً: عبيد الله بن زياد وخطواته للقضاء على مسلم بن عقيل وأنصاره:
1 - اختراق تنظيم مسلم بن عقيل:
حرص عبيد الله بن زياد على جمع المعلومات بواسطة جواسيسه على الفئات المعارضة، واستطاع أن يخترق أتباع مسلم بن عقيل، وقد كلَّف أحد رجاله بهذه المهمة، فأعطاه مبلغاً من المال، وكان الرجل من أهل الشام يقال له: معقلاً وكان مقدار المبلغ ثلاثة آلاف درهم، وقال: خذ هذا المال، وانطلق فالتمس مسلم بن عقيل، وتأتَّ له بغاية التأتي، فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم، ثم نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد، فجلس الرجل حتى إذا انفتل من صلاته، فدنا منه وجلس، فقال: جعلت فداك إني رجل من أهل الشام مولى لذي الكلاع، وقد أنعم الله عليَّ بحب أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحب من أحبَّهم، ومعي هذه الثلاثة الآلاف درهم، أحب إيصالها إلى رجل منهم، بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين بن علي، فهل تدلني عليه لأُوصل هذا المال إليه؟ ليستعين به على بعض أموره ويضعه حيث أحب من شيعته، قال له الرجل: وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممن هو في المسجد؟ قال: لأني رأيت عليك سيما الخير، فرجوت أن تكون ممن يتولى أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال له الرجل: ويحك قد وقعت عليَّ بعينك، أنا رجل من إخوانك، واسمي مسلم بن عوسجة، وقد سُرِرت بك وساءني ما كان من حسي قبلك، فإني رجل من شيعة أهل هذا البيت، خوفاً من هذا الطاغية ابن زياد، فأعطني ذمة الله وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس، فأعطاه من ذلك ما أراد، واستطاع الشامي في نهاية المطاف الوصول إلى مسلم بن عقيل، فكان يغدو إلى مسلم بن عقيل فلا يحجب عنه، فيكون نهاره كله عنده فيتعرَّف جميع أخبارهم، فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيد الله بن زياد، فأخبره بجميع قصصهم، وما قالوا، وما فعلوا في ذلك، وأعلمه نزول مسلم بن عقيل في دار هاني بن عروة. وهكذا استطاع ابن زياد أن يعرف أخبار مسلم بن عقيل وتحركاته.
2 - سجن هانيء بن عروة:
كان محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة يدخلون على ابن زياد مُسَلمين، فقال لهما: ما فعل هانيء بن عروة؟ فقالا: أيها الأمير، إنه عليل منذ أيام، فقال ابن زياد: وكيف؟. بلغني أنه يجلس على باب داره عامَّة نهاره، فما يمنعه من إتياننا وما يجب عليه في حق التسليم؟ قالا: سنعلمه ذلك، ونخبره باستبطائك إياه، فخرجا من عنده، وأقبلا حتى دخلا على هانيء بن عُروة، فأخبراه بما قال لهما ابن زياد، وما قالا له، ثم قالا له: أقسمنا عليك إلا قمت معنا إليه الساعة؛ لَتُسلُ سخيمة قلبه، فدعا ببغلته فركبها ومضى معهما، حتى إذا دنا من قصر الإمارة خبُثت نفسه، فقال لهما: إن قلبي قد أوجس من هذا الرجل خيفة.
قالا: ولمَ تحدثُ نفسك بالخوف وأنت بريء الساحة؟
فمضى معهما حتى دخلوا على ابن زياد، فأنشأ ابن زياد يقول متمثلاً:
أريد حياته ويريد قتلي *** عَذِيرَك من خَلِيلِكَ من مراد
قال: هانيء وما ذاك أيها الأمير؟
قال ابن زياد: وما يكون أعظم من مجيئك بمسلم بن عقيل وإدخالك إياه منزلك، وجمعك له الرجال ليبايعوه؟ فقال هانيء: ما فعلت، وما أعرف من هذا شيئاً، فدعا ابن زياد بالشامي، وقال: يا غلام، ادع لي معقلاً، فدخل عليهم، فقال: ابن زياد لهانيء بن عروة: أتعرف هذا؟ فلما رآه علم أنه إنما كان عيناً عليهم، فقال هانيء: أصدُقُك والله أيها الأمير، وإني والله ما دعوت مسلم بن عقيل وما شعرت به، ثم قصَّ عليه قصَّته على وجهها.
ثم قال: فأمّا الآن فأنا مخرجه من داري لينطلق حيث يشاء، وأعطيك عهداً وثيقاً أن أرجع إليك. قال ابن زياد" لا والله لا تفارقني حتى تأتيني به. فقال هانيء: أو يجملُ بي أن أسلم ضيفي وجاري للقتل؟ والله لا أفعل ذلك أبداً.
فاعترضه ابن زياد بالخيزرانة، فضرب وجهه، وهشم أنفه، وكسر حاجبه، وأمر به فأُدخل بيتاً، فبلغ الخبر عمرو بن الحجاج الزبيدي أن هانئاً قد قتل، فأقبل في قبيلة مذجح، وأحاط بالقصر، ونادى بأنه لم يخلع الطاعة، وإنما أراد الاطمئنان إلى سلامة هانيء، فأمر ابن زياد القاضي شريح بأن يدخل على هانيء، وينظر إليه ويخبرهم أنه حي، ففعل، فقال لهم سيدهم عمر وبن الحجاج: أما إذا كان صاحبكم حياً فما يعجلكم الفتنة؟ انصرفوا فانصرف.
3 - استخدام ابن زياد للأشراف للقضاء على تمرد الكوفة:
لما بلغ مسلم بن عقيل خبر ضرب وجه هانيء بن عروة، أمر أن ينادي في أصحابه الذين بايعوه، واستخدم كلمة السر وهي: يا منصور أمت، فتنادى أهل الكوفة، فاجتمعوا إليه، وكان عدد الذين حصروا أربعة آلاف رجل، فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة، وأمره أن يسير أمامه بالخيل، ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذجح وأسد، وأمَّره على الرجَّالة، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة، ثم قدم نحو القصر، ولما بلغ ابن زياد إقباله تحرَّز وتمنَّع بالقصر، وكان ابن زياد يملك قدراً كبيراً من الدهاء والمكر والخداع، حيث إنه بمجرد دخوله القصر جمع وجوه الكوفة واحتفظ بهم عنده حتى يكونوا وسيلة ضغط مهمة عنده ستثمر عن نتائج إيجابية جداً لصالح ابن زياد.
وتقدم مسلم بهذه الجموع، صوب قصر الإمارة التي يتحصن بها ابن زياد، وهنا طلب ابن زياد من أشراف الناس وزعماء الكوفة الذين معه أن يعظوا الناس ويُخَذِّلوهم ويخوفونهم بقرب أهل الشام، وصار هؤلاء الأمراء والزعماء يثبطون الناس، ويذكرونهم بالسلامة والأمن، وأنهم إن لم ينصرفوا، سيحرمون من العطاء، وسيساقون إلى الثغور وسينالهم العقاب الشديد، ولم يكن التثبيط مقصوراً على الأمراء فقط، بل إن النساء كان لهن دورٌ كبير في إضعاف عزيمة المناصرين لمسلم، إضافة إلى الآباء وكبار السن فقد كان لهم نفس الدور.
وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر انصرف.
وأخذت هذه الحرب النفسية التي جُوبِه بها المؤيدون لمسلم بن عقيل من التهويل والتخويف تعمل عملها بين صفوف الناس، فبدؤوا ينصرفون عن مسلم بن عقيل وأخذ العدد يتضاءل سريعاً حتى إنه لما قرب المساء لم يبقَ مع مسلم بن عقيل إلا عددٌ بسيطٌ يتراوح بين الثلاثمائة والخمسمائة رجل، وكان غالبية الذين بقوا مع مسلم بن عقيل من مذجح، فأمر ابن زياد، عبيد الله بن كثير بن شهاب الحارثي أن يخرج فيمن أطاعه من مذجح ويسير بالكوفة ويُخَذِّل الناس عن ابن عقيل، ويخوفهم بالحرب وعقوبة السلطان، ثم أمر ابن زياد محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، ويرفع راية الأمان لمن يأتيه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وأبقى سائر وجوه الناس معه، وأمام هذه الإجراءات السريعة من ابن زياد، وأمام الشد النفسي الذي نازع غالبية من انضموا إلى مسلم بن عقيل أخذ هذا العدد يتضاءل حتى وصل إلى ستين رجلاً، ثم حدثت معركة بين مسلم وأتباعه وبين ابن الأشعث، والقعقاع بن شور، وشبث بن ربعي عند الرحبة، ويبدو أن هذه المعركة لم تدم طويلاً عندما تنبه القعقاع بن شور إلى أن المقاتلين إنما يقاتلون لأجل النجاة، عند ذلك أمر بإفساح الطريق لهم، فهربوا نحو المسجد، ولما أمسى المساء تفرق الناس، وبقي مسلم بن عقيل وحيداً في طرقات الكوفة.
4 - القبض على مسلم بن عقيل وقتله:
أصبح مسلم بن عقيل وحيداً يتردد في طرق الكوفة، فأتى بيتاً فخرجت إليه امرأة، فقال: اسقيني، فسقته، ثم دخلت، ومكثت ما شاء الله، ثم خرجت، فإذا به على الباب، فقالت: يا هذا، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم، فقال: أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوىً؟ قالت: نعم فأدخلته، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فانطلق إلى مولاه فأعلمه، فبعث عبيد الله الشُّرَط إلى مسلم، فخرج وسلَّ سيفه، وقاتل فأعطاه ابن الأشعث أمانًا فسلَّم نفسه، وفي الطريق نحو ابن زياد بكى مسلم، فقيل له: إن من يطلب مثل ما تطلب لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك. قال: إني والله ما لنفسي أبكي، وما لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكني أبكي لأهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي حسيناً وآل الحسين.
وأقبل مسلم على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله، إني والله أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير تستطيع أن تبعث رجلاً على لساني يبلغ حسيناً عني رسالة؟ فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم أو غداً هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جزعي لذلك، فتقول: إن ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أيدي القوم أسير لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لكاذب رأي.
فقال محمد بن الأشعث: والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك، ودعا ابن الأشعث إياس بن العباس الطائي، وقال له: اذهب فالقَ حسيناً فأبلغه هذا الكتاب، ثم أعطاه راحلة وتكفل له بالقيام بأهله وداره، وأدخل محمد بن الأشعث مسلم بن عقيل على ابن زياد، وأخبره بما أعطاه من الأمان، فقال ابن زياد: ما بعثناك لتؤمنه، ولم يقبل أمانه، واستسقى مسلم وهو بباب القصر، فجاءه عمار بن عقبة بماء بارد، ولكنه لم يستطع أن يشرب؛ لما كان يختلط به من دمه، فتركه ودخل على ابن زياد، فقال له: إني قاتلك. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: أوصِ، فنظر مسلم في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: عمر، إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر، فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك، فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد، فقام فتنحى قريباً من ابن زياد، فقال له مسلم: إن علي ديناً في الكوفة سبعمائة درهم، فاقضها عني، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارِها، وابعث إلى الحسين، فإني كنت قد كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلاً، فقام عمر، فعرض على ابن زياد ما قال له: فأجاز ذلك كله، وقال: أما حسين فإنه لم يُردْنا ولا نردُّه، وإن أرادنا لم نكفَّ عنه، ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل، فأصعد إلى أعلى القصر، وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله، ويقول: اللهم، احكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا، ثم ضرب عنقه رجل يقال له: بكير بن حمران ثم ألقى رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده.
5 - قتل هانيء بن عروة:
واتخذ ابن زياد إجراءً يدل على قسوته وجبروته وظلمه، فقد أمر بهانيء فأخرج إلى السوق، وقتل، وظل هانيء يصيح لقبيلته مذحج، ولكن لم ينصره أحد، ثم صلب هانيء ومسلم في سوق أمام الناس، ثم أمر بضرب أعناق اثنين من الذين كانوا يخططون لنصر مسلم بن عقيل وصلبهما في السوق أيضاً.
وكان في وسع ابن زياد أن يرسل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة إلى الخليفة بدمشق، وربما يسجنان أو يعفى عنهما فيما بعد بدلاً من إراقة الدماء وإيجاد الإحن والعداوات بين المسلمين.
وقد برهن ابن زياد على بطش الدولة وعسفها، وأنها لا تبالي إلا بالحفاظ على سلطانها مهما كلفها ذلك من سفك الدماء ويبدو أن مسلماً - رحمه الله - لم يكن بالسياسي المحنك الذي ينظر للمستقبل بحذر، ويزن الأمور بميزان الوقائع السابقة ويقيس الأحداث القائمة على نظيراتها الماضية لهذا غرَّه تكاثر المبايعين، وبكاؤهم بين يديه ووعودهم الموثقة بنصرة الحسين، فأسرع وكتب إلى الحسين يستقدمه، ويحثه على سرعة الحضور فقد تمهدت له البيعة والحضور، فالعواطف وحدها لا تكفي في قلب الأنظمة وإزالة الدول، فلا بد من القيادة الراشدة، والتنظيم المحكم، والتخطيط البعيد، وتوثيق الأفراد، والإعداد المعنوي والمادي معاً جنباً إلى جنب، ونستطيع أن نقول بأن ما اعتمد عليه مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة من حسابات كانت خاطئة وغير صحيحة، فقد ظن مسلم بن عقيل أن العاطفة المحركة لكثير من العامة هي السبيل الوحيد للنصر، ولم يأخذ في الاعتبار تأييد زعماء الكوفة أو الاتصال بهم، ولم يحاول مسلم بن عقيل أن ينظم تلك الجموع، وفق اختصاصات معينة تسيطر عليها منظمة سرية تستطيع أن تتحرك في الخفاء وبدون قيود، كما أنه أخفق في توظيف الإمكانات التي توفرت له، حيث إن العاطفة المسيطرة على المجتمع الكوفي كفيلة بأن تقلب الأمور لصالحه، وذلك بعد إرادة الله، فيما لو استخدمت وأرشدت تلك العاطفة إرشاداً صحيحاً مميزاً، ونجد الطرف الآخر النصير وهو هانيء بن عروة والذي يعتبر من أبرز الناس الذين أيدوا مسلماً وناصروه اعتمد على قوة وكثرة قبيلته، وظن أنه بمنأى عن العقاب وذلك باعتباره زعيماً لمراد التي ذكر المؤرخون أنه كان يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، وإذا انضاف لهذه القبيلة أحلافها من كندة بلغ العدد ثلاثين ألف دارع، سوى الرجالة، ولكن حسابات هانيء بن عروة كانت خاسرة، فالناس قد ضعفت بينهم الروابط القديمة التي تعتبر فيها القبيلة محور الارتكاز، وزعيم القبيلة هو القائد المهيمن الذي ينصاع لأوامره الجميع بدون تردد، وكان لتقسيمات الأرباع في ولاية زياد بن أبيه أثر في هذا الضعف، كما أن نظام العطاء ربط مصالح القبائل بالسلطة الأموية، لقد كانت الحسابات التي ارتكز عليها هانيء والتي اعتمد فيها على القبيلة قد أثبتت خسارتها، ومما قيل من الشعر في مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة:
فإن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري *** إلى هانيء في السُّوقِ وابن عقيل
أصابهما أمر الإمام فأصبحا *** أحاديث من يسعى بكل سبيل
إلى بطل قد هَشَّم السيف وجهه *** وآخر يَهوِي من طمار قتيل
ترى جسداً قد غيَّر الموت لونه *** ونضح دمٍ قد سال كلَّ مَسيلٍ
فإن أنتم لم تثأَروا بأخيكم *** فكونوا بغيا أُرضيت بقليل
رابعاً: موقف يزيد من أحداث الكوفة:لما تأكد ليزيد تصميم الحسين على الاستجابة لدعوة أهل الكوفة، كتب لابن عباس؛ لأنه شيخ بني هاشم في عصره وعالم المسلمين، قائلاً: ونحسب أن رجالاً أتوه من المشرق فمنَّوه الخلافة، فإنه عندك منهم خبرة وتجربة، فإن كان فعل فقد قطع وشائج القرابة، وأنت كبير أهل بيتك، والمنظور إليه، فاكففه عن السعي في الفرقة. ثم كتب بهذه الأبيات إليه وإلى مكة والمدينة من قريش:
يا أيها الراكب الغادي لطيته *** على عُذَاقِرةٍ في سيرها قحم
أبلغ قريشاً على نأي المزار بها *** بيني وبين حسين الله والرحم
إلى أن قال:
يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خمدت *** وأمسكوا بجبال السلم واعتصموا
لا تركبوا البغي إن البغي مصرعه *** وإن شارب كأس البغي يتخم
قد غرَّت الحرب من قد كان قبلكم *** من القرون وقد بادت بها الأمم
فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً *** فرب ذي بذخ زلت به القدم
فكتب إليه ابن عباس: إني لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كل ما يجمع الله به الألفة وتطفي بها الثائرة.
وفي تلك الأثناء كانت الأحداث تتسارع، وذلك بعدما أخذ الشيعة يختلفون على مسلم بن عقيل ويبايعونه، وعندما أحس النعمان بن بشير الأنصاري والي الكوفة بخطورة الوضع، قام، فخطب في الناس، وقال: اتقوا الله عباد الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة؛ فإن فيها يهلك الرجال، وتسفك الدماء وتغصب الأموال، وقال: إني لم أقتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب عليَّ، لا أشاتمكم ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة والتهمة، ولكن إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل.
وأشارت سياسة النعمان بن بشير - رضي الله عنه - مع أنصار الحسين حفيظة الناصحين للأمويين، وأحد الموالين لهم في الكوفة وهو عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي، حليف بني أمية، فقام إلى النعمان بن بشير وبين له أن طريقته هذه إنما هي طريقة المستضعفين وأنه يجب عليه أن ينهج سياسة البطش والقوة حيال المتربصين بأمن الكوفة، ولكن رد النعمان بن بشير - رضي الله عنه - كان واضحاً بأنه يراقب الله في سياسته.
ولم تعجب يزيد سياسة النعمان فعزله من ولاية الكوفة، وعيَّن بدله عبيد الله بن زياد وكتب إليه: إن شيعتي من أهل الكوفة كتبوا إليَّ يخبروني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع؛ ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه، أو تقتله أو تنفيه، والسلام.
وغادر ابن زياد البصرة بعد أن اتخذ عدة احتياطات؛ خوفاً من حدوث اضطرابات، وأناب عنه أخاه عثمان بن زياد على البصرة، ثم خرج من البصرة ومعه وجوه أهل البصرة أمثال مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته.
وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ودخلها متلثماً والناس قد بلغهم إقبال الحسين إليهم، فهم ينظرون قدومه، فظنوا حين قدم عبيد الله أنه الحسين بن علي، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول الله، قدمت خير مقدم، فلما أكثروا عليه صاح فيهم مسلم بن عمرو وقال: تأخروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد فلما نزل في القصر نودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فخرج إليهم، ثم خطبهم ووعد من أطاع منهم خيراً، وتوعد من خالف وحاول الفتنة منهم شراً.
خامساً: عبيد الله بن زياد وخطواته للقضاء على مسلم بن عقيل وأنصاره:
1 - اختراق تنظيم مسلم بن عقيل:
حرص عبيد الله بن زياد على جمع المعلومات بواسطة جواسيسه على الفئات المعارضة، واستطاع أن يخترق أتباع مسلم بن عقيل، وقد كلَّف أحد رجاله بهذه المهمة، فأعطاه مبلغاً من المال، وكان الرجل من أهل الشام يقال له: معقلاً وكان مقدار المبلغ ثلاثة آلاف درهم، وقال: خذ هذا المال، وانطلق فالتمس مسلم بن عقيل، وتأتَّ له بغاية التأتي، فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم، ثم نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد، فجلس الرجل حتى إذا انفتل من صلاته، فدنا منه وجلس، فقال: جعلت فداك إني رجل من أهل الشام مولى لذي الكلاع، وقد أنعم الله عليَّ بحب أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحب من أحبَّهم، ومعي هذه الثلاثة الآلاف درهم، أحب إيصالها إلى رجل منهم، بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين بن علي، فهل تدلني عليه لأُوصل هذا المال إليه؟ ليستعين به على بعض أموره ويضعه حيث أحب من شيعته، قال له الرجل: وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممن هو في المسجد؟ قال: لأني رأيت عليك سيما الخير، فرجوت أن تكون ممن يتولى أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال له الرجل: ويحك قد وقعت عليَّ بعينك، أنا رجل من إخوانك، واسمي مسلم بن عوسجة، وقد سُرِرت بك وساءني ما كان من حسي قبلك، فإني رجل من شيعة أهل هذا البيت، خوفاً من هذا الطاغية ابن زياد، فأعطني ذمة الله وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس، فأعطاه من ذلك ما أراد، واستطاع الشامي في نهاية المطاف الوصول إلى مسلم بن عقيل، فكان يغدو إلى مسلم بن عقيل فلا يحجب عنه، فيكون نهاره كله عنده فيتعرَّف جميع أخبارهم، فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيد الله بن زياد، فأخبره بجميع قصصهم، وما قالوا، وما فعلوا في ذلك، وأعلمه نزول مسلم بن عقيل في دار هاني بن عروة. وهكذا استطاع ابن زياد أن يعرف أخبار مسلم بن عقيل وتحركاته.
2 - سجن هانيء بن عروة:
كان محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة يدخلون على ابن زياد مُسَلمين، فقال لهما: ما فعل هانيء بن عروة؟ فقالا: أيها الأمير، إنه عليل منذ أيام، فقال ابن زياد: وكيف؟. بلغني أنه يجلس على باب داره عامَّة نهاره، فما يمنعه من إتياننا وما يجب عليه في حق التسليم؟ قالا: سنعلمه ذلك، ونخبره باستبطائك إياه، فخرجا من عنده، وأقبلا حتى دخلا على هانيء بن عُروة، فأخبراه بما قال لهما ابن زياد، وما قالا له، ثم قالا له: أقسمنا عليك إلا قمت معنا إليه الساعة؛ لَتُسلُ سخيمة قلبه، فدعا ببغلته فركبها ومضى معهما، حتى إذا دنا من قصر الإمارة خبُثت نفسه، فقال لهما: إن قلبي قد أوجس من هذا الرجل خيفة.
قالا: ولمَ تحدثُ نفسك بالخوف وأنت بريء الساحة؟
فمضى معهما حتى دخلوا على ابن زياد، فأنشأ ابن زياد يقول متمثلاً:
أريد حياته ويريد قتلي *** عَذِيرَك من خَلِيلِكَ من مراد
قال: هانيء وما ذاك أيها الأمير؟
قال ابن زياد: وما يكون أعظم من مجيئك بمسلم بن عقيل وإدخالك إياه منزلك، وجمعك له الرجال ليبايعوه؟ فقال هانيء: ما فعلت، وما أعرف من هذا شيئاً، فدعا ابن زياد بالشامي، وقال: يا غلام، ادع لي معقلاً، فدخل عليهم، فقال: ابن زياد لهانيء بن عروة: أتعرف هذا؟ فلما رآه علم أنه إنما كان عيناً عليهم، فقال هانيء: أصدُقُك والله أيها الأمير، وإني والله ما دعوت مسلم بن عقيل وما شعرت به، ثم قصَّ عليه قصَّته على وجهها.
ثم قال: فأمّا الآن فأنا مخرجه من داري لينطلق حيث يشاء، وأعطيك عهداً وثيقاً أن أرجع إليك. قال ابن زياد" لا والله لا تفارقني حتى تأتيني به. فقال هانيء: أو يجملُ بي أن أسلم ضيفي وجاري للقتل؟ والله لا أفعل ذلك أبداً.
فاعترضه ابن زياد بالخيزرانة، فضرب وجهه، وهشم أنفه، وكسر حاجبه، وأمر به فأُدخل بيتاً، فبلغ الخبر عمرو بن الحجاج الزبيدي أن هانئاً قد قتل، فأقبل في قبيلة مذجح، وأحاط بالقصر، ونادى بأنه لم يخلع الطاعة، وإنما أراد الاطمئنان إلى سلامة هانيء، فأمر ابن زياد القاضي شريح بأن يدخل على هانيء، وينظر إليه ويخبرهم أنه حي، ففعل، فقال لهم سيدهم عمر وبن الحجاج: أما إذا كان صاحبكم حياً فما يعجلكم الفتنة؟ انصرفوا فانصرف.
3 - استخدام ابن زياد للأشراف للقضاء على تمرد الكوفة:
لما بلغ مسلم بن عقيل خبر ضرب وجه هانيء بن عروة، أمر أن ينادي في أصحابه الذين بايعوه، واستخدم كلمة السر وهي: يا منصور أمت، فتنادى أهل الكوفة، فاجتمعوا إليه، وكان عدد الذين حصروا أربعة آلاف رجل، فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة، وأمره أن يسير أمامه بالخيل، ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذجح وأسد، وأمَّره على الرجَّالة، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة، ثم قدم نحو القصر، ولما بلغ ابن زياد إقباله تحرَّز وتمنَّع بالقصر، وكان ابن زياد يملك قدراً كبيراً من الدهاء والمكر والخداع، حيث إنه بمجرد دخوله القصر جمع وجوه الكوفة واحتفظ بهم عنده حتى يكونوا وسيلة ضغط مهمة عنده ستثمر عن نتائج إيجابية جداً لصالح ابن زياد.
وتقدم مسلم بهذه الجموع، صوب قصر الإمارة التي يتحصن بها ابن زياد، وهنا طلب ابن زياد من أشراف الناس وزعماء الكوفة الذين معه أن يعظوا الناس ويُخَذِّلوهم ويخوفونهم بقرب أهل الشام، وصار هؤلاء الأمراء والزعماء يثبطون الناس، ويذكرونهم بالسلامة والأمن، وأنهم إن لم ينصرفوا، سيحرمون من العطاء، وسيساقون إلى الثغور وسينالهم العقاب الشديد، ولم يكن التثبيط مقصوراً على الأمراء فقط، بل إن النساء كان لهن دورٌ كبير في إضعاف عزيمة المناصرين لمسلم، إضافة إلى الآباء وكبار السن فقد كان لهم نفس الدور.
وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر انصرف.
وأخذت هذه الحرب النفسية التي جُوبِه بها المؤيدون لمسلم بن عقيل من التهويل والتخويف تعمل عملها بين صفوف الناس، فبدؤوا ينصرفون عن مسلم بن عقيل وأخذ العدد يتضاءل سريعاً حتى إنه لما قرب المساء لم يبقَ مع مسلم بن عقيل إلا عددٌ بسيطٌ يتراوح بين الثلاثمائة والخمسمائة رجل، وكان غالبية الذين بقوا مع مسلم بن عقيل من مذجح، فأمر ابن زياد، عبيد الله بن كثير بن شهاب الحارثي أن يخرج فيمن أطاعه من مذجح ويسير بالكوفة ويُخَذِّل الناس عن ابن عقيل، ويخوفهم بالحرب وعقوبة السلطان، ثم أمر ابن زياد محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، ويرفع راية الأمان لمن يأتيه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وأبقى سائر وجوه الناس معه، وأمام هذه الإجراءات السريعة من ابن زياد، وأمام الشد النفسي الذي نازع غالبية من انضموا إلى مسلم بن عقيل أخذ هذا العدد يتضاءل حتى وصل إلى ستين رجلاً، ثم حدثت معركة بين مسلم وأتباعه وبين ابن الأشعث، والقعقاع بن شور، وشبث بن ربعي عند الرحبة، ويبدو أن هذه المعركة لم تدم طويلاً عندما تنبه القعقاع بن شور إلى أن المقاتلين إنما يقاتلون لأجل النجاة، عند ذلك أمر بإفساح الطريق لهم، فهربوا نحو المسجد، ولما أمسى المساء تفرق الناس، وبقي مسلم بن عقيل وحيداً في طرقات الكوفة.
4 - القبض على مسلم بن عقيل وقتله:
أصبح مسلم بن عقيل وحيداً يتردد في طرق الكوفة، فأتى بيتاً فخرجت إليه امرأة، فقال: اسقيني، فسقته، ثم دخلت، ومكثت ما شاء الله، ثم خرجت، فإذا به على الباب، فقالت: يا هذا، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم، فقال: أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوىً؟ قالت: نعم فأدخلته، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فانطلق إلى مولاه فأعلمه، فبعث عبيد الله الشُّرَط إلى مسلم، فخرج وسلَّ سيفه، وقاتل فأعطاه ابن الأشعث أمانًا فسلَّم نفسه، وفي الطريق نحو ابن زياد بكى مسلم، فقيل له: إن من يطلب مثل ما تطلب لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك. قال: إني والله ما لنفسي أبكي، وما لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكني أبكي لأهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي حسيناً وآل الحسين.
وأقبل مسلم على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله، إني والله أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير تستطيع أن تبعث رجلاً على لساني يبلغ حسيناً عني رسالة؟ فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم أو غداً هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جزعي لذلك، فتقول: إن ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أيدي القوم أسير لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لكاذب رأي.
فقال محمد بن الأشعث: والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك، ودعا ابن الأشعث إياس بن العباس الطائي، وقال له: اذهب فالقَ حسيناً فأبلغه هذا الكتاب، ثم أعطاه راحلة وتكفل له بالقيام بأهله وداره، وأدخل محمد بن الأشعث مسلم بن عقيل على ابن زياد، وأخبره بما أعطاه من الأمان، فقال ابن زياد: ما بعثناك لتؤمنه، ولم يقبل أمانه، واستسقى مسلم وهو بباب القصر، فجاءه عمار بن عقبة بماء بارد، ولكنه لم يستطع أن يشرب؛ لما كان يختلط به من دمه، فتركه ودخل على ابن زياد، فقال له: إني قاتلك. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: أوصِ، فنظر مسلم في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: عمر، إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر، فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك، فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد، فقام فتنحى قريباً من ابن زياد، فقال له مسلم: إن علي ديناً في الكوفة سبعمائة درهم، فاقضها عني، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارِها، وابعث إلى الحسين، فإني كنت قد كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلاً، فقام عمر، فعرض على ابن زياد ما قال له: فأجاز ذلك كله، وقال: أما حسين فإنه لم يُردْنا ولا نردُّه، وإن أرادنا لم نكفَّ عنه، ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل، فأصعد إلى أعلى القصر، وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله، ويقول: اللهم، احكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا، ثم ضرب عنقه رجل يقال له: بكير بن حمران ثم ألقى رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده.
5 - قتل هانيء بن عروة:
واتخذ ابن زياد إجراءً يدل على قسوته وجبروته وظلمه، فقد أمر بهانيء فأخرج إلى السوق، وقتل، وظل هانيء يصيح لقبيلته مذحج، ولكن لم ينصره أحد، ثم صلب هانيء ومسلم في سوق أمام الناس، ثم أمر بضرب أعناق اثنين من الذين كانوا يخططون لنصر مسلم بن عقيل وصلبهما في السوق أيضاً.
وكان في وسع ابن زياد أن يرسل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة إلى الخليفة بدمشق، وربما يسجنان أو يعفى عنهما فيما بعد بدلاً من إراقة الدماء وإيجاد الإحن والعداوات بين المسلمين.
وقد برهن ابن زياد على بطش الدولة وعسفها، وأنها لا تبالي إلا بالحفاظ على سلطانها مهما كلفها ذلك من سفك الدماء ويبدو أن مسلماً - رحمه الله - لم يكن بالسياسي المحنك الذي ينظر للمستقبل بحذر، ويزن الأمور بميزان الوقائع السابقة ويقيس الأحداث القائمة على نظيراتها الماضية لهذا غرَّه تكاثر المبايعين، وبكاؤهم بين يديه ووعودهم الموثقة بنصرة الحسين، فأسرع وكتب إلى الحسين يستقدمه، ويحثه على سرعة الحضور فقد تمهدت له البيعة والحضور، فالعواطف وحدها لا تكفي في قلب الأنظمة وإزالة الدول، فلا بد من القيادة الراشدة، والتنظيم المحكم، والتخطيط البعيد، وتوثيق الأفراد، والإعداد المعنوي والمادي معاً جنباً إلى جنب، ونستطيع أن نقول بأن ما اعتمد عليه مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة من حسابات كانت خاطئة وغير صحيحة، فقد ظن مسلم بن عقيل أن العاطفة المحركة لكثير من العامة هي السبيل الوحيد للنصر، ولم يأخذ في الاعتبار تأييد زعماء الكوفة أو الاتصال بهم، ولم يحاول مسلم بن عقيل أن ينظم تلك الجموع، وفق اختصاصات معينة تسيطر عليها منظمة سرية تستطيع أن تتحرك في الخفاء وبدون قيود، كما أنه أخفق في توظيف الإمكانات التي توفرت له، حيث إن العاطفة المسيطرة على المجتمع الكوفي كفيلة بأن تقلب الأمور لصالحه، وذلك بعد إرادة الله، فيما لو استخدمت وأرشدت تلك العاطفة إرشاداً صحيحاً مميزاً، ونجد الطرف الآخر النصير وهو هانيء بن عروة والذي يعتبر من أبرز الناس الذين أيدوا مسلماً وناصروه اعتمد على قوة وكثرة قبيلته، وظن أنه بمنأى عن العقاب وذلك باعتباره زعيماً لمراد التي ذكر المؤرخون أنه كان يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، وإذا انضاف لهذه القبيلة أحلافها من كندة بلغ العدد ثلاثين ألف دارع، سوى الرجالة، ولكن حسابات هانيء بن عروة كانت خاسرة، فالناس قد ضعفت بينهم الروابط القديمة التي تعتبر فيها القبيلة محور الارتكاز، وزعيم القبيلة هو القائد المهيمن الذي ينصاع لأوامره الجميع بدون تردد، وكان لتقسيمات الأرباع في ولاية زياد بن أبيه أثر في هذا الضعف، كما أن نظام العطاء ربط مصالح القبائل بالسلطة الأموية، لقد كانت الحسابات التي ارتكز عليها هانيء والتي اعتمد فيها على القبيلة قد أثبتت خسارتها، ومما قيل من الشعر في مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة:
فإن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري *** إلى هانيء في السُّوقِ وابن عقيل
أصابهما أمر الإمام فأصبحا *** أحاديث من يسعى بكل سبيل
إلى بطل قد هَشَّم السيف وجهه *** وآخر يَهوِي من طمار قتيل
ترى جسداً قد غيَّر الموت لونه *** ونضح دمٍ قد سال كلَّ مَسيلٍ
فإن أنتم لم تثأَروا بأخيكم *** فكونوا بغيا أُرضيت بقليل
المصدر: ملتقى نـور الحـق الإسلامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق