الاثنين، 21 أكتوبر 2013

التطور التاريخي للتشيع

التطور التاريخي للتشيعمعرفة نشوء المذهب
إن الشيعة بأصولها ومعتقداتها لم تولد فجأة، بل مرت بمراحل كثيرة ونشأت تدريجياً.. وانقسمت إلى فرق كثيرة. وفيما يأتي بعض الآراء في ذلك:

أولاً - رأي الشيعة في نشأة التشيع:
لم يكن للشيعة رأيٌ موحد في هذا الشأن، ونستطيع أن نستخلص ثلاثة آراء في نشأة التشيع كلها جاءت في كتبهم المعتمدة، وتلك الآراء باختصار هي:
الرأي الأول:
إن التشيع قديم وُلد قبل رسالة النبي (صلى الله عليه وسلم )، وإنه ما من نبي إلا وقد عرض عليه الإيمان بولاية علي. وقد وضع الشيعة أساطير كثيرة لإثبات هذا الشأن، ومن ذلك ما جاء في الكافي عن أبي الحسن قال: ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولم يبعث الله رسولاً إلا بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم ) ووصية عليّ (رضي الله عنه ) [1]. وقالوا: ثبت أن جميع أنبياء الله ورسله وجميع المؤمنين كانوا لعلي بن أبي طالب مجيبـين، وثبت أن المخالفين لهم كانوا له ولجميع أهل محبته مبغضين، فلا يدخل الجنة إلا من أحبه من الأولين والآخرين فهو قسيم الجنة والنار[2]. وجاءت رواياتهم في هذا المعنى في كثير من كتبهم المعتمدة عندهم.
الرأي الثاني: 
ويزعم بعضهم في القديم والحديث أن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) هو الذي وضع بذرة التشيع، وأن الشيعة ظهرت في عصره، وأن هناك بعض الصحابة الذين كانوا يتشيعون لعليّ ويوالونه في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم ). يقول القمي: فأول الفرق الشيعية، وهي فرقة علي بن أبي طالب المسمون شيعة علي في زمان النبي (صلى الله عليه وسلم ) وبعده معروفون بالقول بإمامته، منهم المقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، وأبو ذر، وعمار بن ياسر.. وهم أول من سُموا باسم (التشيع) من هذه الأمة[3]. ويقول محمد حسين آل كاشف الغطاء (ت 1373هـ): إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة، يعني أن بذرة التشيع وضعت في بذرة الإسلام[4]. جنباً إلى جنب وسواء بسواء، ولم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والري حتى نمت وازدهرت في حياته، ثم أثمرت بعد وفاته[5].
الرأي الثالث:
حيث يجعل تاريخ ظهور الشيعة يوم الجمل. قال ابن النديم: إن علياً قصد طلحة والزبير ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله جل اسمه، فسمى من اتبعه على ذلك بـ (الشيعة)، فكان يقول: شيعتي، وسماهم( الأصفياء والأولياء والأصحاب)[6]. وهذا رأي انفرد به ابن النديم ويشير إلى تاريخ ظهور الشيعة بمعنى الأنصار والأتباع، وتاريخ إطلاق لقب الشيعة على أنصار علي (رضي الله عنه)، وأن علياً هو الذي لقبهم بذلك حيث يقول: "شيعتي".
ولا شك أن هذا القول لا يدل على بداية الأصول الفكرية للتشيع، فهو يعني هنا المعنى اللغوي للشيعة وهو الأنصار، ولهذا استخدم أيضاً ألقاباً أخرى تدل على ذلك كالأصحاب والأولياء، كما ثبت أن لقب " شيعتي" والشيعة كما استعمله علي قد استعمله معاوية أيضاً ( رضي الله عنه ).

ثانياً - آراء غير الشيعة في نشأة التشيع:
القول الأول:
إن التشيع ظهر بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم )، حيث وجد من يرى أحقية علي (رضي الله عنه ) بالإمامة. وهذا الرأي قالت به طائفة من القدامى والمعاصرين منهم العلامة ابن خلدون وأحمد أمين وبعض المستشرقين، وهذا القول منهم مبنيٌّ على ما نقله البعض من وجود رأي يقول بأحقية قرابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) بالخلافة بعده.
القول الثاني:
إن التشيع لعلي بدأ بمقتل عثمان ( رضي الله عنه )، يقول ابن حزم: ثم ولي عثمان، وبقي اثني عشر عاماً، وبموته حصل الاختلاف وابتدأ أمر الروافض[7]. وبمثل قول ابن حزم هذا قالت طائفة من العلماء والباحثين. والذي بدأ غرس بذرة التشيع هو عبد الله بن سبأ اليهودي[8].
القول الثالث:
ويقول بأن منشأ التشيع كان سنة 37هـ ويبدو أن هذا القول يربط نشأة التشيع بموقعة صفين، حيث وقعت سنة 37هـ بين الإمام علي ومعاوية ( رضي الله عنهما) وما صاحبها من أحداث، وما أعقبها من آثار، ولكن هذا الرأي لا يعني بداية الأصول الشيعية.
القول الرابع:
بأن التشيع وُلد إثر مقتل الحسين. يقول شتروتمان أحد المستشرقين: إن دم الحسين يعتبر البذرة الأولى للتشيع كعقيدة[9].
الرأي المختار:
والذي نراه هو أن الشيعة كفكر وعقيدة لم تولد فجأة، بل إنها أخذت طوراً زمنياً ومرت بمراحل. ولكن طلائع العقيدة الشيعية وأصل أصولها ظهرت على يد السبئية باعتراف كتب الشيعة التي قالت بأن ابن سبأ أول من شهد بالقول بفرض إمامة علي، وهذه المسألة أصبحت من أصول الاعتقاد عند الشيعة، وقد ثبت في صحيح البخاري ما يدل على أن هذه العقيدة ظهرت في وقت مبكر، وأن علياً (رضي الله عنه ) سُئل عنها وقيل له: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن ومما ليس عند الناس؟ فنفى ذلك نفياً قاطعاً.
أما " التشيع المتوسط " والذي مضمونه تفضيل علي وتقديمه على غيره ونحو ذلك فلم يكن هذا من أحداث الزنادقة، وقد وُجد إثر مقتل عثمان ( رضي الله عنه ) ولم يأخذ مكانه في نفوس فرقة معينة معروفة. وأما السبَّابة فهم الذين يسبون أبا بكر وعمر. وأما المفضِّلة فهم الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر, ولكن ما تلا ذلك من أحداث هيأ جواً صالحاً لظهور مثل هذه العقائد، وتمثُّلِها في جماعة وذلك كمعركة صفين، وحادثة التحكيم التي أعقبتها، ومقتل علي ومقتل الحسين ( رضي الله عنه ). كل هذه الأحداث دفعت القلوب والعواطف إلى التشيع لطائفة من آل النبي (صلى الله عليه وسلم ) فتسلل الفكر الوافد من نافذة التشيع لعلي وآله، وصار التشيع وسيلة لكل من أراد هدم الإسلام من ملحد ومنافق وطاغوت، ودخلت إلى المسلمين أفكار ومعتقدات أجنبية اكتست بثوب التشيع، وتيسر دخولها تحت غطائه، وبمرور الأيام كانت تتسع البدعة ويتعاظم خطرها، حيث وجد لابن سبأ خلفاء كثيرون.
ولم يكن استعمال لقب "الشيعة" في عهد علي (رضي الله عنه ) إلا بمعنى الموالاة والنصرة، ولا يعني بحال الإيمان بعقيدة من عقائد الشيعة اليوم.. ولم يكن يختص إطلاق هذا اللقب بعلي (رضي الله عنه)، ويدل على ذلك ما جاء في صحيفة التحكيم من إطلاق اسم الشيعة على كل من أتباع علي وأتباع معاوية ( رضي الله عنه ) [10].

تطور المذهب:
كانت الإمامة عند أهل البيت وعامة الشيعة تختلف في مفهومها عند الإمامية، فقد كانت إمامة عادية بشرية عند أولئك، وإمامة ربانية عند هؤلاء! وفيما يأتي استعراض سريع لأهم مراحل تطور التشيع عبر التاريخ.
في مطلع القرن الأول الهجري:
إن نظرية الإمامة الإلهية القائمة على العصمة والنص لم تكن شائعة ومعروفة في أوساط الشيعة وأهل البيت أنفسهم في زمانهم، وإنما بدأت تدب تحت الأرض في الكوفة في بداية القرن الثاني، وكان المتكلمون الذين ابتدعوها يلفُّونها بستار من التقية والكتمان. وبعد التطور الكيساني الذي حدث في صفوف الشيعة في أواخر القرن الثاني، والذي كان يقوم على نظرية الوصية من النبي (صلى الله عليه وسلم ) للإمام عليّ(رضي الله عنه)، وينقلها من بعده إلى الحَسَن والحُسين ثم إلى محمد بن الحنفية، وينقلها بعد ذلك إلى ابنه أبي هاشم عبد الله، ذلك التطور الذي أدَّى إلى تشعب الحركة الشيعية إلى عدة فرق في نهاية هذا القرن، حيث أخذ كل فريق يدَّعي الوصية عن أبي هاشم، مما أدَّى إلى حدوث صراع داخلي كبير في صفوف (أهل البيت) الذين انقسموا إلى (عباسية) و(علوية) و(طالبية) و(فاطمية) و(حسنية) و(حسينية) و(زيدية) و(جعفرية) وحدوث صراع آخر فيما بعدُ في صفوف شيعتهم وانقسامهم إلى (ناووسية) و(إسماعيلية) و(موسوية) و(فطحية) و(واقفية) و(قطعية).. ثم انقسام (الإمامية) إلى عدة فرق كلٌّ منها قالت بإمامة أحد الأئمة أو أخيه أو ابنه.
في بداية القرن الثاني الهجري:
وبعد هذا التطور، ونتيجة لما آلت إليه الشيعة من تشرذم.. بدأت تدبُّ نظرية الإمامة الإلهية القائمة على (العصمة) و(النص) تحت الأرض في الكوفة، وكان المتكلمون الذين ابتدعوها يلفُّونها بستار من التقية والكتمان. كما حدث تطور جديد آخر في صفوف فريق من الشيعة في بدايات هذا القرن تمثل في حصر الإمامة في (البيت الحُسيني) وتعيينه في واحد منهم هو (الأكبر من وِلْد الإمام السابق) وإثبات صفة (العصمة) له... وبعد تقرير ضرورة اتصاف الإمام - مطلق الإمام – بالعصمة وبالأفضلية في العلم والشجاعة والسخاء وعدم جواز إمامة غير المعصوم أو الجاهل أو المفضول - وهو ما لا يوجد طريق للتعرف عليه سوى إرشاد الله تعالى إليه - يقوم الفكر الإمامي بإسقاط (الشورى) طريقاً لاختيار الإمام، ويُحلُّ محلها (النص) أو (الوصية) أو (المعاجز الغيبية) التي تميِّز الإمام المختار من قبل الله تعالى عن غيره من البشر.
ثمَّ ينتقل الفكر الإمامي من القول بضرورة العصمـة في الإمام - مطلق الإمام - إلى ضرورة (النص عليه وتعيينه من الله) كطريق وحيد لمعرفته، فيبطل قانون (الشورى والانتخاب)، ثم يحصر الإمامة في الأئمة المعصومين من أهل البيت، بدءاً من الإمام علي بن أبي طالب والحَسَن والحُسين ثم الأئمة من ذرية الحُسين الذين نصبهم الله تعالى قادة لخلقه إلى يوم القيامة. وبعد إثبات الإمامة للحسن والحُسين يحاول الإمامية الإجابة عن سبب حصر الإمامة في ذرية الحُسين فقط، فكلاهما من العترة ومن أهل البيت ومن أولاد فاطمة وعليّ.
ويستدلَّ الفكر الإمامي على (عصمة أهل البيت) بالآية الكريمة التي تقول*: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)[11] وذلك بتفسير معنى الإرادة بالإرادة التكوينية لا التشريعية المؤكدة، حيث يستحيل أن تتخلف إرادة الله بإذهاب الرجس عنهم، وقد قال تعالى:(إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)[12]. كما يستدل بها على إخراج نساء النبي من صفوف أهل البيت وحصرها في الإمام عليّ وفاطمة وأبنائهما.
كما حاول الإماميون الذين نشأوا في بدايات هذا القرن أن يسحبوا نظريتهم إلى الوراء ويقرؤوا التاريخ الشيعي قراءة جديدة على ضوء نظريتهم القائمة على النص وإلغاء الفكر الشيعي السياسي السابق القائم على الشورى. وبالطبع فقد نسبوا فكرهم إلى أهل البيت وادَّعوا استقاءه منهم.
وخلافاً للفكر الكيساني الذي اعتمد على وصية النبي للإمام عليّ، فقد اعتمد الفكر الإمامي بصورة رئيسة على موضوع (الغدير) ورأى فيه دلالة قوية على إرادة المعنى السياسي والنص بالخلافة.
ومـن هنا.. ونظراً لضعف النصوص التي يرويها الإمامية حول النص بالخلافة على أهل البيت فقد اعتمد المتكلمون الأوائل بالدرجة الأُولى على (العقل) في تشييد نظريتهم. وإذا كانت نظرية (الإمامة) تقدم بعض النصوص حول الإمام عليّ بن أبي طالب فإنها تعترف بعدم وجود النصوص على عدد من الأئمة الآخرين، ولذا فإنها تستعين بـ (الوصايا العادية) فتتخذ منها دليلاً بديلاً عن النص، ولكنها تفتقر بعض الأحيان حتى إلى الوصية العادية، فتقول بنظرية (المعاجز) وقيامها مقام النصوص، خاصة وأن الأحاديث التي يستدلَّ بها الإماميون على حصر الإمامة في أهل البيت – كحديث الثقلين – تشمل البيتين. وقد بنى (الجارودية) نظريتهم في جواز الإمامة في أبناء الحَسَن والحُسين على ذلك الحديث. ولذلك فقد ظل الشيعة يتساءلون عن سرِّ حصر الإمامة في ذرية الحُسين مع قيام أبناء الحَسَن بقيادة الشيعة عملياً وتفجيرهم للثورات المختلفة هنا وهناك، وقد تصدى أولاد الحَسَن للإمامة وادَّعوها لأنفسهم وذهب بعضهم إلى كون المهدي المنتظر فيهم، وكان بعض الشيعة يُفضِّل أولاد الحَسَن على أولاد الحُسين.
ومن الواضح أن هذا الجواب كان قبل تبلور النظرية (الإمامية) في القرون التالية واستنادها إلى (أحاديث) مسبقة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) تذكر أسماء الأئمة واحداً بعد واحد. وقال (الإمامية) بامتداد الإمامة في أولاد الحُسين وذلك في الأكبر فالأكبر وعدم جواز انتقالها إلى أخ أو ابن أخ أو عم أو ابن عم، واستندوا في ذلك على آية: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)[13] وهي نفس الآية التي استندوا عليها في نفي إمامة أبناء الحَسَن.
وبناءً على ذلك فلم تكن هناك قائمة مسبقة بأسماء الأئمة القادمين، وإنما كانت هذه القضية متروكة للزمن، وهناك أحاديث عديدة تقول* بأن الأئمة لم يكونوا يعرفون بخَلَفَهِم من قبل، وأنهم كانوا يعلمون بذلك في اللحظات الأخيرة من حياتهم. ومن هنا فقد كان الشيعة الإمامية يسألون الأئمة السابقين عن هوية الأئمة اللاحقين ويلحون في السؤال، وكثيراً ما كان الأئمة يرفضون إخبارهم بذلك، وهناك أحاديث تصرِّح بإمكانية جهل الشيعة بالإمام وترسم لهم الموقف في ذلك الظرف.
في القرنين الثاني والثالث:
ولو ألقينا نظرة على تراث الإمامية خلال القرنين الثاني والثالث لوجدنا النظرية الإمامية مفتوحة وممتدة إلى يوم القيامة، وأنها لم تكن محصورة في (عدد محدد) من الأئمة أو (فترة زمنية خاصة)، ومع أنها وصلت إلى طريق مسدود عند وفاة الإمام الحَسَن العسكري دون أن يخلِّف ولداً تستمر الإمامة فيه، ودون أن يشير أو يوصي إلى أي أحد من بعده، فقد اعتقد الذين آمنوا بوجود ولد مكتوم له في البداية *أن الإمامة ستسمر في ذرية ذلك الولد المخفي إلى يوم القيامة، ولم يعتقدوا في البداية أنه الإمام الأخير، ولا أن الأئمـة (أثنى عشر) فقط.
في القرن الرابع الهجري:
ونتيجة لذلك فقد شهد القرن الرابع الهجري تطوراً جديداً في النظرية الإمامية هذا التطور هو حدوث الاثنى عشرية، وهي نظرية حدثت خاصة في صفوف (الشيعة الموسوية) وخاصة الجناح المتشدد الذي كان يؤمن بقانون الوراثة العمودية بشدة ولا يقبل أي تسامح فيها، وقد قال ذلك الجناح *بوجود قائمة مسبقة وبتحديد أسماء الأئمة من قبل الرسول – صلى الله عليه وسلم- بـ (اثني عشر إماماً) هم*: (عليّ) و(الحَسَن) و(الحُسين) و(عليّ بن الحُسين) و(محمد بن عليّ) و(جعفر بن محمد) و(موسى بن جعفر) و(عليّ بن موسى) و(محمد بن عليّ) و(عليّ بن محمد) و(الحَسَن بن عليّ)... وأن آخرهم (الإمام الغائب محمد بن الحَسَن العسكري)، وكان يستهدف من وراء ذلك إثبات وجود الإمام الثاني عشر محمد بن الحَسَن العسكري الذي كان وجوده محل شكٍّ ونقاش في صفوف الشيعة الإمامية... وقد اضطرت النظرية الاثنى عشرية إلى إلغاء التاريخ الشيعي والإمامي، وإهمال قضية الغموض في النص والوصية وحيرة الإمامية في التعرف على الإمام الجديد، وتجاوز مسألة (البداء)[14] التي حدثت مرتين في عهد الإمام الصادق والإمام الهادي، والادِّعاء بأنها كانت موجودة منذ عهد رسول الله، وذلك على الرغم من اعتراف الجميع بولادة النظرية الإمامية في مطلع القرن الثاني الهجري على أيدي هشام بن الحكم ومؤمن الطاق وهشام بن سالم الجواليقي.
كما أن تحديد هوية (الإمام المهدي) بـ (الثاني عشر من أئمة أهل البيت) كما هو معروف لدى الشيعة الاثنى عشرية اليوم قد حدث في وقت متأخر بعد وفاة الإمام الحَسَن العسكري وبعد القول بوجود ولد له في السر بفترة طويلة، أي في بداية هذا القرن تقريباً، وذلك في أعقاب تطور نظرية (الإمامة الإلهية) وتحولها من التسلسل اللا محدود إلى الاقتصار على (اثني عشر) وتكوّن الفرقة الاثنى عشرية. ومما يؤكد غموض هوية المهدي عند أهل البيت ولدى جماهير الشيعة والمسلمين في القرون الثلاثة الأولى هو تكرر دعوات المهدوية هنا وهناك. حتى جاوزت العشرات، وحتى أصبح لكل فرقة وطائفة أكثر من مهدي واحد.

في القرن الخامس الهجري:
وقد كان فتح باب الاجتهاد أخيراً في مطلع هذا القرن خطوة كبيرة للخروج من الأزمة وملء الفراغ التشريعي الذي حدث للشيعة الإمامية بعد وفاة الإمام الحَسَن العسكري وغيبة (أو افتقاد) الإمام الثاني عشر، وقد أدَّى إلى التحرر من نظرية (التقية والانتظار) وإعادة النظر في كثير من أبواب الفقه المعطلة بسبب نظرية (الغيبة)، وملاحقة التطورات والإجابة على المسائل الحادثة، كما أدَّى إلى حدوث تطورات جذرية في الفكر الإمامي والتخلي عن اشتراط العصمة والنص والسلالة العلوية الحُسينية في الإمام، والقول بجواز الحكومة لغير المعصوم أو وجوبها، واستنباط نظرية (ولاية الفقيه) وغيرها من النظريات التي أعادت الشيعة إلى مسرح الحياة.
في القرن العاشر الهجري:
وعندما أراد الصفويون في هذا القرن التحرك العسكري لإقامة دولة خاصة بهم وجدوا نظرية الانتظار غير معقولة ولا واقعية وتشكل حجر عثرة أمام طموحهم وتحركهم. وعلى الرغم من أنهم كانوا منذ فترة قد أعلنوا التمسك بالمذهب الإمامي الاثنى عشري، إلا أنهم في الحقيقة لم يستوعبوا نظرية (الإمامة الإلهية) التي تشترط العصمة والنص في الإمام، وحولوها إلى نظرية تاريخية ورفضوها عملياً، حيث أجازوا لزعمائهم (وهم غير معصومين ولا منصوص عليهم من الله) أن يستولوا على الملك ويقوموا بمهام الإمامة.
إنَّ بروز التجربة الصفوية كان نتيجة الفراغ السياسي الذي كان يهيمن على الشيعة في ظل نظرية الانتظار السلبية الانعزالية في تلك الأيام، وهذا ما دلَّ على تطور نظرية (النيابة العامة) في القرن الثالث عشر الهجري من إجازة الملوك إلى تصدي الفقهاء بأنفسهم للحكم، وتجاوز نظرية (الانتظار) والتخلي عنها تماماً..
في القرن الثالث عشر الهجري:
حيث تطورت نظرية (النيابة العامة) في هذا القرن من إجازة الملوك إلى تصدي الفقهاء بأنفسهم للحكم، وتجاوز نظرية (الانتظار) والتخلي عنها تماماً..

في العصر الحديث: 
وأخيراً.. إذا ألقينا نظرة شاملة على مسيرة الفكر السياسي الشيعي خلال ألف عام، منذ وفاة الإمام الحَسَن العسكري والقول بوجود ولد له في السر.. نجد أن هذا الفكر قال في القرون الأُولى بنظرية (التقية والانتظار) كلازمة من لوازم نظرية (الإمامة والغيبة) التي كانت تحرِّم إقامة الدولة أو الثورة أو ممارسة أي نشاط سياسي إلا بقيادة (الإمام المعصوم المعين من قبل الله تعالى) وهو ما أدَّى إلى انسحاب الشيعة من المسرح السياسي والانعزال التام.. ثم تراجع الفكر الإمامي عن هذه النظرية تدريجياً وقال بنظرية (النيابة العامة) التي طورها الفقهاء بعد ذلك بقرون إلى نظرية (ولاية الفقيه) والتي تخلَّوا فيها عملياً عن (النظرية الإمامية)، حيث أجازوا إقامة الدولة بدون اشتراط العصمة أو النص أو السلالة العلوية الحُسينية في (الإمام المعاصر) وهو ما أدَّى إلى قيام الشيعة في العصر الحديث بتأسيس (الجمهورية الإسلامية) في إيران[15].
المرحلة الأخيرة: 
وقد انحصرت الفرق الشيعية المعاصرة بثلاث فرق هي:
1. الاثنى عشرية:
وطائفة الاثنى عشرية هي أكبر الطوائف اليوم، كما كانت تمثل أكثرية الشيعة وجمهورها في بعض فترات التاريخ، فقد وصفها طائفة من علماء الفرق بـ "جمهور الشيعة".
وفيما يأتي بعض ما يتعلق بهذه الفرقة:
اعتقادهم في القرآن الكريم (كما أفادته أمهاتُ كتبِهم ومصادرُهم المعتمدة!!) بأنه قد غُيّر وحُرِّف وزيد فيه وأُنقص منه وأن للقرآن معاني باطنة تخالف الظاهر، وأنه ليس بحجة إلا بقيم، والقيم هو الإمام، وأن الأئمة اختُصُّوا بمعرفته لا يشركهم فيه أحد، وأن قول الإمام ينسخ القرآن ويقيد مطلقه ويخصص عامه، وأن قول الإمام كقول الله ورسوله، وأن علمه يتحقق بطريق الإلهام والوحي!! وأن الله تعالى خزن العلم عند الأئمة، وأن مروّيات الصحابة غير مقبولة عندهم، فالسنة عندهم هي ما رواه الأئمة فقط دون غيرهم!! كما قالوا بأن الحجة في قول إمامهم لا في الإجماع، وأن ما خالف الأُمة ففيه الرشاد، وأن الولاية للأئمة هي أصل قبول الأعمال عندهم.. كما أوَّلوا نصوص التوحيد وجعلوها في ولاية الأئمة، وقالوا بأن لا هداية للناس إلا بالأئمة، وأن الدعاء لا يقبل إلا بأسمائهم والاستغاثة بهم، فأدى ذلك بهم إلى اتخاذ قبورهم قبلة كبيت الله، كما قالوا بأن الإمام يحرِّم ما يشاء ويُحلل ما يشاء!! وأن الرب هو الإمام!! وأن الدنيا والآخرة كلها للإمام يتصرف بها كيف يشاء!! وأسندوا الحوادث الكونية إلى الأئمة!! وقالوا بأن القرآن مخلوق ووصفوا الأئمة بأسماء الله تعالى وصفاته، وفضلوهم على الرسل، كما تفردوا بأصول ومعتقدات أخرى غير الإمامة، وحصروا الأئمة بعدد معين، وحكموا على من أنكر إمامة أحد الاثنى عشر بالكفر وإحباط العمل بمن فيهم جمهور الصحابة وأهل البيت من غير الاثنى عشر!!! بل بلغ بهم الأمر إلى تكفير خلفاء المسلمين، وحكمهم على الأمصار الإسلامية بأنها دار كفر، وعدهم قضاةَ المسلمين طواغيتَ وحكامَ جور، واعتبارهم أئمة المذاهب الأربعة وأئمة المسلمين كملل أهل الشرك!! ولعنهم وتكفيرهم للفرق الإسلامية كلها ما عدا طائفتهم، ولعنهم وتكفيرهم للأمة كلها!!! واعتمادهم على مبدأ التقيـة، وأنها في الأصل عندهم هي (أي التقية) مع المسلمين، واعتقادهم بمهدية الثاني عشر الغائب ورجعته بعد حين غير معلوم، واعتقادهم بالبـداء وأنه من أصولهم، وكذا الطينة.... هذه ـ باختصار شديد ـ بعض عقائدهم[16].
2. الإسماعيلية: 
وهم الذين قالوا: بأن الإمام بعد جعفر هو إسماعيل بن جعفر، ثم قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأنكروا إمامة سائر ولد جعفر، ومن الإسماعيلية انبثق القرامطة والحشاشون والفاطميون والدروز وغيرهم. وأما مذهبهم فهو كما يقول الغزالي وغيره: إنه مذهب ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض. أو كما يقول ابن الجوزي: فمحصول قولهم تعطيل الصانع وإبطال النبوة والعبادات وإنكار البعث.
ولهم مراتب في الدعوة إلى مذهبهم، حيث لا يظهرون هذا في أول أمرهم، أما حقيقة المذهب لا تعطى إلا لمن وصل إلى الدرجة الأخيرة.
3. الزيدية:
وهم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وسُمّوا بالزيدية نسبة إليه، وقد افترقوا عن الإمامية حينما سُـئل زيدٌ عن أبي بكر وعمر فترضى عنهما فرفضه قوم فسُمُّوا رافضة. وسُمّي من لم يرفضه من الشيعة (زيدية)؛ لاتِّباعهم له. وذلك في آخر خلافة هشام بن عبد الملك.
والزيدية فرق: منهم من لم يحمل من الانتساب إلى زيد إلا الاسم فهم روافض في حقيقة أمرهم ويقولون: إن الأمة ضلت وكفرت بصرفها الأمر إلى غير علي، وهؤلاء هم الجارودية – أتباع أبي الجارود - ومنهم من يقترب من أهل السنة كثيراً وهم أصحاب الحسن بن صالح بن حي الفقيه القائلون بأن الإمامة في وِلْد علي (رضي الله عنه ). يقول ابن حزم: إن الثابت عن الحسن بن صالح هو أن الإمامة في جميع قريش، ويتولون جميع الصحابة إلا أنهم يفضلون علياً على جميعهم.

التشيع في العراق وانتشاره:
إن ازدهار التشيع في أوائل القرن العشرين الميلادي وحتى العقد الأخير منه مر بعدة مراحل وكأنه مخطط تظافرت الجهود (الإيرانية – الأمريكية – البريطانية - الفرنسية – العثمانية) لإنشائه في المنطقة.
بدأ نشاط التشيع في حركتين للعشائر والقبائل، منها حركة استيطان العشائر البدوية وممارستها الزراعة وتحولها فيما بعد إلى التشيع، وحركة الهجرة الكبيرة من الأرياف إلى المدن الكبرى وبخاصة بغداد والبصرة بعد أن استعصت على نشر التشيع الشعوبي فيهما. وكانت كبريات حركات الهجرة من المناطق الجنوبية، وبخاصة من سكان الأهوار (البطائح) ويطلق عليهم: (المِعْدان) والقسم الآخر يطلق عليهم: (الشروگِية). هذا ما يصوره المؤرخون لهذه الفترة دون أن يذكروا عملية التحول العقائدي التي رافقت هذه الأحداث، فبنُو تميم تشيعت عام (1809) والخزاعل عام (1719) والزبيد عام (1809) وكعب عام (1769) وربيعة عام (1799).
وقد كان النزح بسبب سوء الأحوال الاجتماعية والاقتصادية وتحلل النظم الاجتماعية العشائرية السابقة وسياسة الحكومات المتعاقبة التي أدت إلى إفقار الفلاحين والإجحاف بحقهم، وضعف علاقتهم بأرضهم؛ لأنهم من أصول بدوية، وكذلك بسبب تكرار حالات الفيضانات وملوحة التربة وجفاف فروع الأنهار وافتقار الريف إلى المؤسسات الثقافية والصحية والاجتماعية مقابل توفر المصانع والمنشآت المهمة وفرص العمل في المدن الكبرى.
وتكونت في بغداد مناطق للنازحين أُطلق عليها (الصرائف) بُنيت من الطين والصفيح، وكانت في بغداد (16413) صريفة موزعة على تسع مناطق تضم (92173) نسمة أقيمت على مواقع كانت بلدية بغداد تستخدمها كمدفن للنفايات، حيث انطلقوا من تلك الصرائف للبحث عن العمل والانخراط في الحياة المدنية شيئاً فشيئاً. ثم قامت الحكومة بتوزيع أراضي صغيرة بمساحات تتراوح ما بين (60 – 100 م2)، كما وزعت قروضاً من البنك العقاري لبناء هذه المناطق (كما في الثورة والشعلة).

الشيعة بعد الخميني ومنهجهم في نشر المذهب:
قامت الدولة الشيعية بعد الخميني على أساس العقيدة، وافترضت وجود ركام قرون من المظلومية، فانطلقت من هذا الركام مع توفر إمكانات مسخرة لنشر المذهب في استراليا وأفريقيا وأوربا... أدت إلى فتح مراكز ثقافية وأخرى صحية في السودان وكينيا ونيجيريا... وإعطاء المساعدات والمنح الدراسية، كما ركبوا موجة التقريب ودعوى أنْ لا فرق بين الشيعة والسنة، فبدءوا من خلال ذلك – وبأساليب خبـيثة - بالتشكيك بالصحابة وخلافهم وطرح فضائل الإمام، كما قاموا بطبع ونشر وتوزيع كتب مثل (المراجعات)، (ثم اهتديت)، (لأكون مع الصادقين) وغيرها من الكتب وبكميات هائلة على مستوى الأفراد والجماعات والهيئات للتبشير بالمذهب وبأساليب ماكرة وخبيثة، كما رشحوا الشيعة للعمل في اليمن والسودان، وفعَّلوا الدور الإيراني في كل من أفغانستان وباكستان والعراق والخليج والشام... باختصار فقد كان لرجال السياسة والدين الإيرانيين بعد الخميني نشاطات متعددة على كافة الأصعدة، وخاصة السياسية منها والاستخباراتية والدعائية والثقافية.
-------------------------------------------------------------------------------
[1]- [الكليني / أصول الكافي 1/437]
[2]- [الكاشاني / تفسير الصافي 1/16]
[3]- [المقالات والفرق ص 15]
[4]- [لاحظ أن هذا اعتراف منه بأن بذرة التشيع غير بذرة الإسلام] 
[5]- [أصل الشيعة/ ص43] 
[6]- [ابن النديم/ الفهرست ص175]
[7] [الفصل 2/8]
[8] [عبد الله بن سبأ هو رأس الطائفة السبئية التي كانت تقول بألوهية علي ورجعته وتطعن في الصحابة... وأصله من اليمن وكان يهودياً يتظاهر بالإسلام].
[9]- [دائرة المعارف الإسلامية 14/59] 
[10]- ومن أراد المزيد في هذا الصدد فليراجع كتاب أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية للدكتور ناصر بن عبد الله القفاري، والمصادر التي اعتمد عليها.
[11] الأحزاب (33).
[12] يس (82)
[13] الأنفال (75).
[14] لو كان هناك تعريف لمصطلح البداء وما هي المرتان التي حصلت فيها البداء
[15] وللاستزادة في هذا الباب يراجع كتاب تطور الفكر السياسي الشيعي.. من الشورى إلى ولاية الفقيه الأُستاذ أحمد الكاتب، والمصادر التي اعتمد عليها.
[16] ومن أراد المزيد فليراجع كتاب أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية للدكتور ناصر بن عبد الله القفاري، والمصادر التي اعتمد عليها.
اللهم اغفر لكاتبها وناقلها,وقارئها واهلهم وذريتهم واحشرهم معا سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق