حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء (3)علي محمد الصلابي
سادساً: وصول خبر مقتل مسلم بن عقيل للحسين، وملاقاته طلائع جيش ابن زياد: خرج الحسين - رضي الله عنه - من مكة يوم التروية الموافق لثمان من ذي الحجة سنة ستين، أدرك والي مكة عمرو بن سعيد بن العاص خطورة الموقف فأرسل وفداً إلى الحسين وعلى رأسهم أخوه يحيى بن سعيد بن العاص فحاولوا أن يثنوه عن عزمه ولكنه رفض فنادوه: يا حسين، ألا تتقي الله؟ تخرج عن جماعة المسلمين وتفرق بين هذه الأمة، فردَّ الحسين قول الله - تعالى -: (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (يونس: 41). فخرج الحسين متوجهاً إلى العراق في أهل بيته، وستين شيخاً من أهل الكوفة.
وكتب مروان بن الحكم إلى ابن زياد: أما بعد، فإن الحسين بن علي قد توجه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا من الحسين، وإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء ولا ينساه العامة، ولا يدع ذكره، والسلام عليك.
وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص ينهاه عن التعرض للحسين ويأمره بأن يكون حذراً في تعامله مع الحسين: قائلاً له: أما بعد، فقد توجه إليك الحسين وفي مثلها تعتق، أو تعود عبداً تسترق كما يسترق العبيد.
وفي الطريق إلى الكوفة قابل الحسين الفرزدق الشاعر المشهور بذات عرق. فسأله الحسين بن علي عن تصوره لما يقوم به أهل الكوفة حياله، ثم أراد أن يعطي الفرزدق إيضاحاً أكثر وقال: هذه كتبهم معي، فرد عليه الفرزدق: يخذلونك فلا تذهب، فإنك تأتي قوماً قلوبهم معك وأيديهم عليك.
وعندما علم يزيد بن معاوية بخروج الحسين من مكة واتجاهه للكوفة، كتب إلى ابن زياد يحذره ويقول: بلغني أن حسيناً قد سار إلى الكوفة وقد ابتلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلاد، وابتليت به من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تتعبد العبيد.
1 - ابن زياد يتخذ التدابير الأمنية:
اتخذ ابن زياد بعض التدابير لكي يحول بين أهل الكوفة وبين الحسين، ويحكم سيطرته على الكوفة، فقام بجمع المقاتلة، وفرق عليهم العطاء؛ حتى يضمن ولاءهم.
ثم بعث الحصين بن تميم الطهوي صاحب شرطته حتى نزل بالقادسية، وقام بتنظيم الخيل ما بين القادسية إلى خفان، وما بين القادسية إلى القطقطانة، وإلى لعلع، ثم أصدر أوامره إلى الحصين بن تيم بأن يقبض على كل من ينكره، ثم أمر ابن زياد بأخذ كل من يجتاز بين واقصة إلى طريق الشام، إلى طريق البصرة فلا يترك أحداً يلج ولا يخرج، وأراد ابن زياد من الإجراء الأخير قطع الاتصال بين أهل الكوفة وبين الحسين بن علي، ومضى الحسين بن علي في طريقه إلى الكوفة ولم يكن يعلم بتلك التغيرات التي حدثت في الكوفة بعد خروجه من مكة، ولما بلغ الحاجز من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة وكتب معه إليهم برسالة يخبرهم فيها بقدومه، ولكن الحصين بن تميم قبض على قيس بن مسهر مبعوث الحسين حين وصوله إلى القادسية، ثم بعث به إلى ابن زياد فقتله مباشرة، ثم بعث الحسين مبعوثاً إلى مسلم فوقع في يد الحصين بن تميم، وبعث به إلى ابن زياد فقتله، وكانت لتلك الإجراءات الصارمة التي اتخذها ابن زياد أثر كبير على نفوس أتباع الحسين، فهم يرون أن من كان له علاقة بالحسين فإن مصيره القتل، وعلى أبشع صورة، فأصبح من يفكر في نصرة الحسين فإن عليه أن يتصور نهايته على ذلك النحو المؤلم، وكان الحسين - رضي الله عنه - يحس أن الأمور تسير سيراً غير طبيعي في الكوفة وخاصة عندما أخبره الأعراب أن أحداً لا يلج ولا يخرج من الكوفة مطلقاً.
واستمر التحذير من بعض رجال القبائل العربية الذين مرَّ بهم، وبينوا له ذلك الخطر الذي يقدم عليه، ولكن الحسين كان يدلل على نجاح مهمته بالإشارة إلى ذلك العدد الهائل من أسماء المبايعين التي كانت بحوزته، ولما بلغ الحسين زبالة، وقيل شراف جاءه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وعبد الله بن بقطر، إضافة إلى تخاذل أهل الكوفة عن نصرته، وكان لهذا الخبر المفجع المؤلم وقعه الشديد على الحسين - رضي الله عنه -، فهؤلاء أقرب الناس إليه قد قتلوا، والشيعة في الكوفة تخاذلوا في نصرته.
2 - الحسين يعطي الأذن لأصحابه بالانصراف:
لما بلغ الحسين مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه أعلم الحسين من معه بذلك، وقال من أحب أن ينصرف فلينصرف، فتفرق الناس عنه يميناً وشمالاً، وقال له بعض من ثبتوا معه: ننشدك اللهإلا ما رجعت من مكانك؛ فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك، فوثب بنو عقيل -إخوة مسلم- وقالوا: والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم.
3 - ملاقاة الحر بن يزيد التميمي ومعه طلائع جيش الكوفة:
انصرف الناس عن الحسين - رضي الله عنه - فلم يبق معه إلا الذين خرجوا معه من مكة، واستمر في سيره حتى بلغ شراف، وهناك أمر فتيانه أن يستقوا ويكثروا، ثم سار حتى إذا كان منتصف النهار كبَّر رجل من أصحابه، فقال الحسين: الله أكبر ما كبَّرت؟ قال الرجل: رأيت النخل، فقال رجلان، إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط، فقال الحسين: فما تريانه رأى؟ قالا: نراه رأى هوادي الخيل، فقال الرجل: وأنا والله أرى ذلك...
وبالفعل كانت طلائع خيل ابن زياد عليها الحر بن يزيد وكان عددها ألف فارس وقد أدرك الحر بن يزيد الحسين ومن معه قريباً من شراف، ولما طلب منه الحسين الرجوع منعه، وذكر له أنه مأمور بملازمته حتى الكوفة، وقام الحسين وأخرج خرجين مملوءة بالكتب التي تطلب منه القدوم إلى الكوفة، فأنكر الحر والذين معه أي علاقة لهم بهذه الكتب، وهنا رفض الحسين الذهاب مع الحر إلى الكوفة وأصر على ذلك، فاقترح عليه الحر أن يسلك طريقاً يجنبه الكوفة ولا يرجعه إلى المدينة، وذلك من أجل أن يكتب الحر إلى ابن زياد بأمره، وأن يكتب الحسين إلى يزيد بأمره، وبالفعل تياسر الحسين عن طريق العذيب والقادسية واتجه شمالاً على طريق الشام، وأخذ الحر يساير الحسين وينصحه بعدم المقاتلة ويذكِّره بالله، وبيَّن له أنه إذا قاتل فسوف يقتل، وكان الحسين يصلي بالفريقين إذا حضرت الصلاة.
4 - ملاقاة عمر بن سعد بن أبي وقاص والمفاوضات:
ولما وصل الحسين إلى كربلاء أدركته خيل عمر بن سعد ومعه شمر بن ذي الجوشن، والحصين بن تميم، وكان هذا الجيش الذي يقوده عمر بن سعد مكوناً من أربعة آلاف مقاتل، وكان وجهة هذا الجيش في الأصل إلى الري لجهاد الديلم، فلما طلب منه ابن زياد أن يذهب لمقاتلة الحسين رفض عمر بن سعد في البداية هذا الطلب، ولكن ابن زياد هدده إن لم ينفذ أمره بالعزل وهدم داره وقتله، وأمام هذا الخيار رضي بالموافقة.
ولما وصل الحسين كربلاء أحاطت به الخيل، -ويطلق على المنطقة كلها اسم الطف- وبدأ الحسين بن علي بالتفاوض مع عمر بن سعد، وبيَّن الحسين أنه لم يأت إلى الكوفة إلا بطلب من أهلها، وأبرز لعمر بن سعد الدليل على ذلك، وأشار إلى حقيبتين كبيرتين تضمن أسماء المبايعين والداعين للحسين، وكتب عمر بن سعد لابن زياد بما سمعه من الحسين وقال: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عما أقدمه وماذا يطلب، فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذا كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم. فلما قريء على ابن زياد تمثل قول الشاعر:
الآن إذا علقت مخالبنا به *** يرجو النجاة ولاة حين مناص؟
ثم كتب ابن زياد لعمر بن سعد: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية وجميع أصحابه، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا والسلام.
ولما اطلع عمر بن سعد على جواب بن زياد ساءه ما يحمله الجواب من تعنت وصلف، وعرف أن ابن زياد لا يريد السلامة.
رفض الحسين هذا العرض، ثم لما رأى جهامة الموقف وخطورته طلب من عمر بن سعد مقابلته، وعرض على عمر بن سعد عرضاً آخر يتمثل في إجابته واحدة من ثلاث نقاط.
أ - أن يتركوه فيرجع من حيث أتى.
ب - وإما أن يتركوه ليذهب إلى الشام فيضع يده في يد يزيد بن معاوية.
ج - وإما أن يسيِّروه إلى أي ثغر من ثغور المسلمين فيكون واحداً منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم.
وقد أكد الحسين - رضي الله عنه - موافقته للذهاب إلى يزيد.
وكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد بكتاب أظهر فيه أن هذا الموقف المتأزم قد حُلَّ، وأن السلام قد أوشك، وما على ابن زياد إلا الموافقة، وبالفعل فقد أوشك ابن زياد أن يوافق ويرسله إلى يزيد، لولا تدخل شمر بن ذي الجوشن الذي كان جالساً في المجلس حين وصول الرسالة فقد اعترض على رأي ابن زياد في أن يرسله إلى يزيد، وبيَّن لابن زياد أن الأمر الصائب هو أن يطلب من الحسين أن ينزل على حكمه - أي ابن زياد - حتى يكون هو صاحب الأمر المتحكم فيه، فلما وصل الخبر إلى الحسين - رضي الله عنه - رفض الطلب وقال: لا والله لا أنزل على حكم عبيد الله بن زياد أبداً، وقال لأصحابه الذين معه: أنتم في حل من طاعتي، ولكنهم أصرُّوا على مصاحبته والمقاتلة معه حتى الشهادة، واتخذ ابن زياد إجراءً احترازياً حين خرج إلى النخيلة، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث، وضبط الجسر، ولم يترك أحداً يجوزه، وخاصة أنه علم أن بعض الأشخاص من الكوفة بدؤوا يتسللون من الكوفة إلى الحسين.
سابعاً: المعركة الفاصلة استشهاد الحسين - رضي الله عنه - ومن معه:
في صباح يوم الجمعة عام 61هـ نظم الحسين - رضي الله عنه - أصحابه وعزم على القتال وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنته، وحبيب بن مظاهر في الميسرة، وأعطى رايته العباس بن علي، وجعل البيوت وراء ظهورهم، وأمر الحسين بحطب وقصب فجعله من وراء البيوت، وأشعل فيه النار مخافة أن يأتوهم من خلفهم، وأما عمر بن سعد فقد نظم جيشه، وجعل على الميمنة عمرو بن الحجاج الزبيدي - بدلاً من الحر بن يزيد الذي انضم إلى الحسين-، وجعل على الميسرة شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجال شبث بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذويداً مولاه.
وبدأت المعركة سريعة وكانت مبارزة في بداية الأمر، وجُوبهَ جيش عمر بن سعد بمقاومة شديدة من قبل أصحاب الحسين، حيث إن مقاتلتهم اتسمت بالفدائية فلم يعد لهم أمل في الحياة، وكان الحسين - رضي الله عنه - في البداية لم يشترك في القتال، وكان أصحابه يدافعون عنه ولما قتل أصحابه لم يجرؤ أحد على قتله، وكان جيش عمر بن سعد يتدافعون ويخشى كل فرد أن يبوء بقتله وتمنوا أن يستسلم، ولكن الحسين - رضي الله عنه - لم يبدِ شيئاً من الليونة، بل كان - رضي الله عنه - يقاتلهم بشجاعة نادرة، عندئذ خشي شمر بن ذي الجوشن من انفلات زمام الأمور، فصاح بالجند وأمرهم بقتله، فحملوا عليه، وضربه زرعة بن شريك التميمي، ثم طعنه سنان بن أنس النخعي واحتز رأسه، ويقال أن الذي قتله عمرو بن بطار التغلبي، وزيد بن رقادة الحيني، ويقال أن المتولي للإجهاز عليه شمر بن ذي الجوشن الضبي، وحمل رأسه إلى ابن زياد خولي بن يزيد الأصبحي، وكان قتله - رضي الله عنه - في محرم في العاشر منه سنة إحدى وستين.
وقتل مع الحسين - رضي الله عنه - اثنان وسبعون رجلاً، وقتل من أصحاب عمر ثمانية وثمانون رجلاً، وبعد انتهاء المعركة أمر عمر بن سعد بأن لا يدخل أحد على نساء الحسين وصبيانه، وأن لا يتعرض لهم أحد بسوء، وأرسل عمر بن سعد برأس الحسين ونسائه ومن كان معه الصبيان إلى ابن زياد.
وكان الذين قتلوا مع الحسين - رضي الله عنه - من آل أبي طالب، فمن أولاد علي بن أبي طالب الحسين نفسه، وجعفر والعباس وأبو بكر ومحمد وعثمان، ومن أولاد الحسين: علي الأكبر غير علي زين العابدين؛ لأنه كان عنده علي الأصغر، وعلي الأكبر، وعبد الله، ومن أبناء الحسن قتل عبد الله والقاسم وأبو بكر، ومن أولاد عقيل قتل جعفر وعبد الله وعبد الرحمن، ومسلم بن عقيل قتل بالكوفة وعبدالله بن مسلم، ومن أولاد عبد الله بن جعفر: قتل عون ومحمد، ثمانية عشر رجلاً كلهم من بيت رسول الله قد قتلوا في هذه المعركة غير المتكافئة، والعجيب في هذه أن ممن قتل بين يدي الحسين بن علي - رضي الله عنهما - أبو بكر بن علي وعثمان بن علي وأبو بكر بن الحسن ولا تجد لهم ذكراً عندما تسمع أشرطة الشيعة، وتقرأ كتبهم التي أُلفت في مقتل الحسين، حتى لا يقال إن علي بن أبي طالب سمى أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان، أو أن الحسن سمى على اسم أبي بكر، وهذا أمر عجيب جداً منهم.
وعن أنس قال: ولما أُتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين جعل ينكت بالقضيب ثناياه يقول: لقد كان – أحسبه – جميلاً، فقلت: والله لأَسوءنَّك، إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلثم حيث يقع قضيبك. قال: فانقبض.
وفي رواية البخاري عن أنس قال: أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعله في طست، فجعل ينكت عليه، وقال في حسنه شيئاً، فقال أنس: إنه كان أشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان مخضوباً بالوسمة.
ولما وصل نساء الحسين وصبيانه صنع بهما ابن زياد أن أمر لهم بمنزل في مكان معتزل فأجرى عليهم الرزق، وأمر لهن بالكسوة والنفقة.
وتذكر بعض الروايات التي لها ميول شيعية أن ابن زياد أمر بقتل كل من أنبت، ولعل مما يظهر كذب هذه الروايات حينما تذكر أن علي بن الحسين كشفوا عنه فوجدوه قد أنبت، فأمر ابن زياد بقتله ولكن شفاعة أخته زينب وتعلقها به حالت دون قتله، وليس صحيحاً كذلك أن ابن زياد قد أساء معاملة نساء الحسين بعد قتله، أو في ترحيله لهن إلى الشام، فالروايات التاريخية تخبرنا أن أحسن شيء صنعه ابن زياد أنه أمر لهن بمنزل في مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقاً، وأمر لهن بنفقة وكسوة.
ويقول ابن تيمية في رده على بعض كذابي الشيعة: وأما ما ذكره من سبي نسائه والدوران بهن على البلدان وحملهن على الجمال بغير أقتاب، فهذا كذب، وباطل وما سبى المسلمون - ولله الحمد - هاشمية قط، ولا استحلت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هاشمية قط، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيراً، بل المرجح أن ابن زياد بعد أن ذهبت عنه نشوة النصر، أحس فداحة خطئه، وكان ذلك الشعور هو المسيطر على بعض أفراد أسرته القريبين منه، فقد كانت أمه تقول له: ويلك ماذا صنعت؟، أو ماذا ركبت؟. وكان أخوه عثمان بن زياد يقول: لوددت والله أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأن حسيناً لم يقتل: فلا ينكر عليه عبيد الله قوله.
ثامناً: مواقف رائعة بجانب الحسين - رضي الله عنه -:
كانت هناك مواقف رائعة هزت مشاعرنا، وقد سطر التاريخ هذه المواقف لأصحابها لكي يتبين للناس أن في كل زمان شخصيات تقف إلى جوار الرجال؛ تقديراً لمقامهم، ورعاية لحرمتهم، وإظهاراً للحق في مقارنة الرجال إذا واجه بعضهم بعضاً، فهم يقدرون الرجال لمكانتهم الاجتماعية ويفضلونهم على غيرهم، لما يتصفون به من العلم والشجاعة والتقوى ولو كان غيرهم هم الحكام والأمراء، فلا الخوف من الحاكم ينسيهم قدر الرجال، ولا ظلم الحكام ينحرف بهم إلى النفاق والمجاملة، ولا المناصب التي يشغلونها تلهيهم عما يجب أن يكونوا عليه من الصراحة والشجاعة الأدبية ومن هذه المواقف:
1 - موقف الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - رحمه الله -:
فقد امتنع عن استخدام الشدة والقسوة مع الحسين وإلزامه بالقوة أو قتله وقال:... والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسيناً، سبحان الله!، أقتل حسيناً أن قال: لا أبايع!، والله إني لا أظن امرءاً يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة.
وهكذا يقف الوليد هذا الموقف الرائع، وهو أمير المدينة يومئذ، وهو يعلم تماماً أن ذلك الموقف سيؤدي لا محالة إلى عزله عن إمارة المدينة، بل قد يزيد على ذلك، فيؤدي إلى قتله وهلاكه، وهو مع هذا يفضل هلاك الدنيا وزوال الملك والسلطان، على أن يلقى الله بدم الحسين - رضي الله عنه -.
2 - موقف النعمان بن بشير - رضي الله عنه:
وكان أمير الكوفة، فإنه لما بلغه خروج الحسين بن علي - رضي الله عنهما - ووصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة يأخذ البيعة للحسين، قام فخطب في الناس وحذرهم الخروج على الإمام، وأرهبهم من السعي في الفتنة، وذكرهم بما يجره على العامة والخاصة من الخراب والدمار، ومع ذلك كان ليناً مع الناس، وأخبرهم أنه لن يأخذ أحداً بظنه، ولن يقاتل أحداً لم يقاتله، ولكن شدد في نهاية الخطبة، وقال للناس: ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره، لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر. ومع هذا فقد عاب عليه محبو الأمويين هذا الموقف ووسموه بالضعف، وقالوا: إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين، فقال: - رضي الله عنه -: أن أكون من المستضعفين في طاعة الله، أحب إلي من أن أكون من الأعزِّين في معصية الله.
إن رضا الله - تبارك وتعالى - غاية يضحي المسلم في سبيلها بكل غاية، ويبذل في سبيل الحصول عليها كل غالٍ ونفيس، فرضوان الله هو النعمة العظمى التي سيتجلى الله بها على عباده المؤمنين في الجنة، يقول الحق - عز وجل -: ((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (التوبة، الآية: 72).
3 - موقف الحر بن يزيد - رحمه الله -:
وهو أول من لقي الحسين في جيش الكوفة، وهو الذي حال بينه وبين الرجوع إلى المكان الذي أتى منه، ولكنه مع ذلك كان نبيلاً في معاملته للحسين - رضي الله عنه - فقد قال له: أنا لم أؤمر بقتالك، ولكني أمرت أن أخرج بك إلى الكوفة إن وجدتك، ولكني أقول لك: اختر مكاناً لا يؤدي بك إلى الكوفة ولا يعود بك إلى المدينة، ثم أكتب بعد ذلك إلى يزيد بن معاوية أو إلى ابن زياد إن شئت، ولم يكد يصل الجيش وعلى رأسه عمر بن سعد بن أبي وقاص، وتواجه كلا الفريقين، وتأكد الحرّ أن الحرب دائرة بينهما لا محالة، قال الحر لعمر بن سعد: أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال عمر؟ إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي، عندئذ ضرب الحر فرسه، وانطلق به نحو الحسين، وانضم إلى جماعته، ثم قال: يا أهل الكوفة، لأمكم الهَبل، أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه؟!، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، ومنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة الوسيعة التي لا يمنع فيها الكلب والخنزير، وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الذي يشرب منه الكلب والخنزير، وقد صرعهم العطش؟ بئس ما خلفتم محمداً في ذريته، لا أسقاكم الله يوم الظمأ الأكبر إن لم تتوبوا وتتراجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه، واعتذر الحر عن موقفه الأول من الحسين، وقبل الحسين عذره، فلما لامه بعض أصحابه عن الذهاب إلى الحسين قال: والله إني لأخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة غيرها ولو قطعت وحرّقت.
إن الحر بن يزيد - رحمه الله - غير موقفه من الحسين - رضي الله عنه - بعد أن جنح الحسين إلى السلم، ورأى أن موقفه ضده ليس فيه إنصاف ولا عدل، إذ كيف يقاتل رجلاً يدعو إلى السلم، ويطلبه، ويمد يده إلى عدوه ليصالحه، إن الرجولة تقتضي أن يكون الموقف مع هذا المسالم موقف العون وشد الأزر، وإن العقل يحكم بأن الحق مع من يطلب السلم وينشده، والحر يعلم أن الوقوف مع حسين والميل إليه ليس له معنى إلا الموت، ولكنه اختار الموت الذي يوصل إلى الجنة، ومما قيل في الحر بن يزيد التميمي من شعر ما قاله جعفر بن عفان الطائي:
ولم يك فيهم رجل رشيد *** سوى الحر التميمي الرشيدِ
فواحزناه إن بني عليٍّ *** وفاطم قد أبيدوا بالحديدِ
4 - موقف النَّوار بنت مالك الحضرمية:
وهي امرأة خوليِّ بن يزيد الذي بعثه عمر بن سعد برأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد، فلما بلغ خولي الكوفة قصد القصر، فوجد بابه مغلقاً، فتوجه بالرأس الشريف إلى بيته، فوضعه هناك تحت إجانة -والإجانة إناء تغسل فيه الثياب - ثم دخل على زوجته، وآوى إلى فراشه فقالت له زوجته: ما الخبر عندك؟
قال: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك في الدار، فقالت: ويلك جاء الناس بالذهب والفضة، وجئت برأس ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبداً، هذه امرأة انتظرت زوجها طويلاً، ولكن زوجها جاءها بما عكر عليها صفوها، وكدر عليها حياتها، وأفسد عليها انتظارها الطويل، لقد كانت ترجو أن يعود إليها زوجها بأخبار سارة تشرح صدرها، وتملأ عليها نفسها سروراً، نعم، إن عودة زوجها إليها سالماً هي أحسن خبر يحمله لها، ولكنه لم يعد إليها خالي الوفاض من الذهب والفضة اللذين يعود بهما المحاربون عادة فقط، ولو كان الأمر كذلك لسُرَّت بعودته، وسلامته، ولكنه حمل إليها رأس الحسين ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنه يبلغها الخبر بفرحة تدل على رضاه وسروره، أفتفرح هي بذلك؟ إنه لو جاءها بالخبر دون أن يكون مصحوباً بالرأس كان ذلك كفيلاً بزيادة حزنها وأسفها، فكيف وهو يحدثها بالخبر مقروناً برأس الحسين - رضي الله عنه -!، إن كل مؤمن يحزنه الخبر، ويهدُّ نفسه سماعه، لهذا غادرت النوار فراش زوجها، وأقسمت ألا تجتمع معه في بيت أبداً.
تاسعاً: موقف يزيد من قتل الحسين ومن أبناء الحسين وذريته:
كتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بما حدث ويستشيره في شأن أبناء الحسين ونسائه، فلما بلغ الخبر يزيد بن معاوية بكى وقال: كنت أرضى من طاعتكم - أي أهل العراق - بدون قتل الحسين، كذلك عاقبة البغي والعقوق لعن الله ابن مرجانة، لقد وجده بعيد الرحم منه، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين، وفي رواية أنه قال:... أما والله لو كنت صاحبه، ثم لم أقدر على دفع القتل عنه إلا ببعض عمري لأحببت أن أدفعه عنه، فجاء رد يزيد على ابن زياد يأمره بإرسال الأسارى إليه، وبادر ذكوان أبو خالد فأعطاهم عشرة آلاف درهم، فتجهزوا بها، ومن هنا يعلم أن ابن زياد لم يحمل آل الحسين بشكل مؤلم أو أنه حملهم مغللين، كما ورد في بعض الروايات، وقد مر معنا كيف أن ابن زياد قد أمر للأسارى بمنزل منعزل وأجرى عليهم الرزق والنفقة، وكساهم.
وتذكر رواية عوانة أن محفز بن ثعلبة هو الذي قدم بأبناء الحسين على يزيد، ولما دخل أبناء الحسين على يزيد قالت: فاطمة بنت الحسين: يا يزيد: أبنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم – سبايا؟! قال: بل حرائر كرام: أدخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلت. قالت فاطمة: فدخلت إليهن فما وجدت فيهن سفيانية إلا ملتزمة تبكي.
وعندما دخل علي بن الحسين قال يزيد: إن أباك قطع رحمي وظلمني فصنع الله به ما رأيت - وكان علي بن الحسين في معركة كربلاء لم يشترك بسبب المرض الذي كان ملازمه، وكان أثناء احتدام المعركة طريح الفراش فحمل إلى ابن زياد مع بقية الصبيان والنساء - فرد علي بن الحسين على يزيد (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد: 22). ثم طلب يزيد من ابنه خالد أن يجيبه، فلم يدر خالد ما يقول، فقال يزيد: قل له: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30).
وتحاول بعض الروايات ذات النزعات والميول الشيعية أن تصور أبناء الحسين وبناته وكأنهن في مزاد علني، جعل أحد أهل الشام يطلب من يزيد أن يعطيه إحدى بنات الحسين. فهذا من الكذب البين الذي لم يدعمه سند صحيح، ثم إنها مغايرة لما ثبت من إكرام يزيد لآل الحسين، ثم إن يزيد لم يستعرض النساء ويجعلهن عرضة للجمهور من أراد فليختر ما يشاء.
وأرسل يزيد إلى كل امرأة من الهاشميات يسأل عن كل ما أخذ منهن، وكل امرأة تدعي شيئاً بالغاً ما بلغ إلا أضعفه لهن في العطية، وكان يزيد لا يتغذى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين.
وذُكر إن رأس الحسين أرسل إلى يزيد فهذا لم يثبت، بل إن رأس الحسين بقي عند عبيد الله في الكوفة.
عاشراً: رجوع أهل الحسين وأبنائه إلى المدينة:
بعث يزيد إلى المدينة فقدم عليه ذوو السن من موالي بني هاشم ومن موالي بني علي، وبعد أن وصل الموالي أمر يزيد بنساء الحسين وبناته أن يتجهزن، وأعطاهن كل ما طلبن حتى لم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر بها، ثم أمر النعمان بن بشير أن يقوم بتجهيزهم، وقبل أن يغادروا قال يزيد لعلي بن الحسين إن أحببت أن تقيم عندنا فصل رحمك وتعرف لك حقك فعلت. ولكن علي بن الحسين اختار الرجوع إلى المدينة، وأكرم أبناء الحسين وخيّرهم بين المقام عنده والذهاب إلى المدينة، فاختاروا الرجوع إلى المدينة، وعند مغادرتهم دمشق كرَّر يزيد الاعتذار من علي بن الحسين وقال: لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبداً إلا أعطيتها إياه، ولدفعت عنه الحتف بكل ما استطعت، ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني بكل حاجة تكون لك.
وأمر يزيد بأن يرافق ذرية الحسين وفد من موالي بني سفيان، وكان عددهم ثلاثين فارساً، وأمر المصاحبين لهم أن ينزلوا حيث شاؤوا، ومتى شاءوا، وبعث معهم أيضاً محرز بن حريث الكلبي ورجلا من بهرا، وكانا من أفاضل أهل الشام، وخرج آل الحسين من دمشق محفوفين بأسباب الاحترام والتقدير حتى وصلوا إلى المدينة.
قال ابن كثير في يزيد: وأكرم آل بيت الحسين ورد عليهم جميع ما فقد لهم وأضعافه، وردهم إلى المدينة في محامل وأهبة عظيمة، وقد ناح أهله على الحسين.
سادساً: وصول خبر مقتل مسلم بن عقيل للحسين، وملاقاته طلائع جيش ابن زياد: خرج الحسين - رضي الله عنه - من مكة يوم التروية الموافق لثمان من ذي الحجة سنة ستين، أدرك والي مكة عمرو بن سعيد بن العاص خطورة الموقف فأرسل وفداً إلى الحسين وعلى رأسهم أخوه يحيى بن سعيد بن العاص فحاولوا أن يثنوه عن عزمه ولكنه رفض فنادوه: يا حسين، ألا تتقي الله؟ تخرج عن جماعة المسلمين وتفرق بين هذه الأمة، فردَّ الحسين قول الله - تعالى -: (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (يونس: 41). فخرج الحسين متوجهاً إلى العراق في أهل بيته، وستين شيخاً من أهل الكوفة.
وكتب مروان بن الحكم إلى ابن زياد: أما بعد، فإن الحسين بن علي قد توجه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا من الحسين، وإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء ولا ينساه العامة، ولا يدع ذكره، والسلام عليك.
وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص ينهاه عن التعرض للحسين ويأمره بأن يكون حذراً في تعامله مع الحسين: قائلاً له: أما بعد، فقد توجه إليك الحسين وفي مثلها تعتق، أو تعود عبداً تسترق كما يسترق العبيد.
وفي الطريق إلى الكوفة قابل الحسين الفرزدق الشاعر المشهور بذات عرق. فسأله الحسين بن علي عن تصوره لما يقوم به أهل الكوفة حياله، ثم أراد أن يعطي الفرزدق إيضاحاً أكثر وقال: هذه كتبهم معي، فرد عليه الفرزدق: يخذلونك فلا تذهب، فإنك تأتي قوماً قلوبهم معك وأيديهم عليك.
وعندما علم يزيد بن معاوية بخروج الحسين من مكة واتجاهه للكوفة، كتب إلى ابن زياد يحذره ويقول: بلغني أن حسيناً قد سار إلى الكوفة وقد ابتلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلاد، وابتليت به من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تتعبد العبيد.
1 - ابن زياد يتخذ التدابير الأمنية:
اتخذ ابن زياد بعض التدابير لكي يحول بين أهل الكوفة وبين الحسين، ويحكم سيطرته على الكوفة، فقام بجمع المقاتلة، وفرق عليهم العطاء؛ حتى يضمن ولاءهم.
ثم بعث الحصين بن تميم الطهوي صاحب شرطته حتى نزل بالقادسية، وقام بتنظيم الخيل ما بين القادسية إلى خفان، وما بين القادسية إلى القطقطانة، وإلى لعلع، ثم أصدر أوامره إلى الحصين بن تيم بأن يقبض على كل من ينكره، ثم أمر ابن زياد بأخذ كل من يجتاز بين واقصة إلى طريق الشام، إلى طريق البصرة فلا يترك أحداً يلج ولا يخرج، وأراد ابن زياد من الإجراء الأخير قطع الاتصال بين أهل الكوفة وبين الحسين بن علي، ومضى الحسين بن علي في طريقه إلى الكوفة ولم يكن يعلم بتلك التغيرات التي حدثت في الكوفة بعد خروجه من مكة، ولما بلغ الحاجز من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة وكتب معه إليهم برسالة يخبرهم فيها بقدومه، ولكن الحصين بن تميم قبض على قيس بن مسهر مبعوث الحسين حين وصوله إلى القادسية، ثم بعث به إلى ابن زياد فقتله مباشرة، ثم بعث الحسين مبعوثاً إلى مسلم فوقع في يد الحصين بن تميم، وبعث به إلى ابن زياد فقتله، وكانت لتلك الإجراءات الصارمة التي اتخذها ابن زياد أثر كبير على نفوس أتباع الحسين، فهم يرون أن من كان له علاقة بالحسين فإن مصيره القتل، وعلى أبشع صورة، فأصبح من يفكر في نصرة الحسين فإن عليه أن يتصور نهايته على ذلك النحو المؤلم، وكان الحسين - رضي الله عنه - يحس أن الأمور تسير سيراً غير طبيعي في الكوفة وخاصة عندما أخبره الأعراب أن أحداً لا يلج ولا يخرج من الكوفة مطلقاً.
واستمر التحذير من بعض رجال القبائل العربية الذين مرَّ بهم، وبينوا له ذلك الخطر الذي يقدم عليه، ولكن الحسين كان يدلل على نجاح مهمته بالإشارة إلى ذلك العدد الهائل من أسماء المبايعين التي كانت بحوزته، ولما بلغ الحسين زبالة، وقيل شراف جاءه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وعبد الله بن بقطر، إضافة إلى تخاذل أهل الكوفة عن نصرته، وكان لهذا الخبر المفجع المؤلم وقعه الشديد على الحسين - رضي الله عنه -، فهؤلاء أقرب الناس إليه قد قتلوا، والشيعة في الكوفة تخاذلوا في نصرته.
2 - الحسين يعطي الأذن لأصحابه بالانصراف:
لما بلغ الحسين مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه أعلم الحسين من معه بذلك، وقال من أحب أن ينصرف فلينصرف، فتفرق الناس عنه يميناً وشمالاً، وقال له بعض من ثبتوا معه: ننشدك اللهإلا ما رجعت من مكانك؛ فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك، فوثب بنو عقيل -إخوة مسلم- وقالوا: والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم.
3 - ملاقاة الحر بن يزيد التميمي ومعه طلائع جيش الكوفة:
انصرف الناس عن الحسين - رضي الله عنه - فلم يبق معه إلا الذين خرجوا معه من مكة، واستمر في سيره حتى بلغ شراف، وهناك أمر فتيانه أن يستقوا ويكثروا، ثم سار حتى إذا كان منتصف النهار كبَّر رجل من أصحابه، فقال الحسين: الله أكبر ما كبَّرت؟ قال الرجل: رأيت النخل، فقال رجلان، إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط، فقال الحسين: فما تريانه رأى؟ قالا: نراه رأى هوادي الخيل، فقال الرجل: وأنا والله أرى ذلك...
وبالفعل كانت طلائع خيل ابن زياد عليها الحر بن يزيد وكان عددها ألف فارس وقد أدرك الحر بن يزيد الحسين ومن معه قريباً من شراف، ولما طلب منه الحسين الرجوع منعه، وذكر له أنه مأمور بملازمته حتى الكوفة، وقام الحسين وأخرج خرجين مملوءة بالكتب التي تطلب منه القدوم إلى الكوفة، فأنكر الحر والذين معه أي علاقة لهم بهذه الكتب، وهنا رفض الحسين الذهاب مع الحر إلى الكوفة وأصر على ذلك، فاقترح عليه الحر أن يسلك طريقاً يجنبه الكوفة ولا يرجعه إلى المدينة، وذلك من أجل أن يكتب الحر إلى ابن زياد بأمره، وأن يكتب الحسين إلى يزيد بأمره، وبالفعل تياسر الحسين عن طريق العذيب والقادسية واتجه شمالاً على طريق الشام، وأخذ الحر يساير الحسين وينصحه بعدم المقاتلة ويذكِّره بالله، وبيَّن له أنه إذا قاتل فسوف يقتل، وكان الحسين يصلي بالفريقين إذا حضرت الصلاة.
4 - ملاقاة عمر بن سعد بن أبي وقاص والمفاوضات:
ولما وصل الحسين إلى كربلاء أدركته خيل عمر بن سعد ومعه شمر بن ذي الجوشن، والحصين بن تميم، وكان هذا الجيش الذي يقوده عمر بن سعد مكوناً من أربعة آلاف مقاتل، وكان وجهة هذا الجيش في الأصل إلى الري لجهاد الديلم، فلما طلب منه ابن زياد أن يذهب لمقاتلة الحسين رفض عمر بن سعد في البداية هذا الطلب، ولكن ابن زياد هدده إن لم ينفذ أمره بالعزل وهدم داره وقتله، وأمام هذا الخيار رضي بالموافقة.
ولما وصل الحسين كربلاء أحاطت به الخيل، -ويطلق على المنطقة كلها اسم الطف- وبدأ الحسين بن علي بالتفاوض مع عمر بن سعد، وبيَّن الحسين أنه لم يأت إلى الكوفة إلا بطلب من أهلها، وأبرز لعمر بن سعد الدليل على ذلك، وأشار إلى حقيبتين كبيرتين تضمن أسماء المبايعين والداعين للحسين، وكتب عمر بن سعد لابن زياد بما سمعه من الحسين وقال: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عما أقدمه وماذا يطلب، فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذا كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم. فلما قريء على ابن زياد تمثل قول الشاعر:
الآن إذا علقت مخالبنا به *** يرجو النجاة ولاة حين مناص؟
ثم كتب ابن زياد لعمر بن سعد: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية وجميع أصحابه، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا والسلام.
ولما اطلع عمر بن سعد على جواب بن زياد ساءه ما يحمله الجواب من تعنت وصلف، وعرف أن ابن زياد لا يريد السلامة.
رفض الحسين هذا العرض، ثم لما رأى جهامة الموقف وخطورته طلب من عمر بن سعد مقابلته، وعرض على عمر بن سعد عرضاً آخر يتمثل في إجابته واحدة من ثلاث نقاط.
أ - أن يتركوه فيرجع من حيث أتى.
ب - وإما أن يتركوه ليذهب إلى الشام فيضع يده في يد يزيد بن معاوية.
ج - وإما أن يسيِّروه إلى أي ثغر من ثغور المسلمين فيكون واحداً منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم.
وقد أكد الحسين - رضي الله عنه - موافقته للذهاب إلى يزيد.
وكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد بكتاب أظهر فيه أن هذا الموقف المتأزم قد حُلَّ، وأن السلام قد أوشك، وما على ابن زياد إلا الموافقة، وبالفعل فقد أوشك ابن زياد أن يوافق ويرسله إلى يزيد، لولا تدخل شمر بن ذي الجوشن الذي كان جالساً في المجلس حين وصول الرسالة فقد اعترض على رأي ابن زياد في أن يرسله إلى يزيد، وبيَّن لابن زياد أن الأمر الصائب هو أن يطلب من الحسين أن ينزل على حكمه - أي ابن زياد - حتى يكون هو صاحب الأمر المتحكم فيه، فلما وصل الخبر إلى الحسين - رضي الله عنه - رفض الطلب وقال: لا والله لا أنزل على حكم عبيد الله بن زياد أبداً، وقال لأصحابه الذين معه: أنتم في حل من طاعتي، ولكنهم أصرُّوا على مصاحبته والمقاتلة معه حتى الشهادة، واتخذ ابن زياد إجراءً احترازياً حين خرج إلى النخيلة، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث، وضبط الجسر، ولم يترك أحداً يجوزه، وخاصة أنه علم أن بعض الأشخاص من الكوفة بدؤوا يتسللون من الكوفة إلى الحسين.
سابعاً: المعركة الفاصلة استشهاد الحسين - رضي الله عنه - ومن معه:
في صباح يوم الجمعة عام 61هـ نظم الحسين - رضي الله عنه - أصحابه وعزم على القتال وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنته، وحبيب بن مظاهر في الميسرة، وأعطى رايته العباس بن علي، وجعل البيوت وراء ظهورهم، وأمر الحسين بحطب وقصب فجعله من وراء البيوت، وأشعل فيه النار مخافة أن يأتوهم من خلفهم، وأما عمر بن سعد فقد نظم جيشه، وجعل على الميمنة عمرو بن الحجاج الزبيدي - بدلاً من الحر بن يزيد الذي انضم إلى الحسين-، وجعل على الميسرة شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجال شبث بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذويداً مولاه.
وبدأت المعركة سريعة وكانت مبارزة في بداية الأمر، وجُوبهَ جيش عمر بن سعد بمقاومة شديدة من قبل أصحاب الحسين، حيث إن مقاتلتهم اتسمت بالفدائية فلم يعد لهم أمل في الحياة، وكان الحسين - رضي الله عنه - في البداية لم يشترك في القتال، وكان أصحابه يدافعون عنه ولما قتل أصحابه لم يجرؤ أحد على قتله، وكان جيش عمر بن سعد يتدافعون ويخشى كل فرد أن يبوء بقتله وتمنوا أن يستسلم، ولكن الحسين - رضي الله عنه - لم يبدِ شيئاً من الليونة، بل كان - رضي الله عنه - يقاتلهم بشجاعة نادرة، عندئذ خشي شمر بن ذي الجوشن من انفلات زمام الأمور، فصاح بالجند وأمرهم بقتله، فحملوا عليه، وضربه زرعة بن شريك التميمي، ثم طعنه سنان بن أنس النخعي واحتز رأسه، ويقال أن الذي قتله عمرو بن بطار التغلبي، وزيد بن رقادة الحيني، ويقال أن المتولي للإجهاز عليه شمر بن ذي الجوشن الضبي، وحمل رأسه إلى ابن زياد خولي بن يزيد الأصبحي، وكان قتله - رضي الله عنه - في محرم في العاشر منه سنة إحدى وستين.
وقتل مع الحسين - رضي الله عنه - اثنان وسبعون رجلاً، وقتل من أصحاب عمر ثمانية وثمانون رجلاً، وبعد انتهاء المعركة أمر عمر بن سعد بأن لا يدخل أحد على نساء الحسين وصبيانه، وأن لا يتعرض لهم أحد بسوء، وأرسل عمر بن سعد برأس الحسين ونسائه ومن كان معه الصبيان إلى ابن زياد.
وكان الذين قتلوا مع الحسين - رضي الله عنه - من آل أبي طالب، فمن أولاد علي بن أبي طالب الحسين نفسه، وجعفر والعباس وأبو بكر ومحمد وعثمان، ومن أولاد الحسين: علي الأكبر غير علي زين العابدين؛ لأنه كان عنده علي الأصغر، وعلي الأكبر، وعبد الله، ومن أبناء الحسن قتل عبد الله والقاسم وأبو بكر، ومن أولاد عقيل قتل جعفر وعبد الله وعبد الرحمن، ومسلم بن عقيل قتل بالكوفة وعبدالله بن مسلم، ومن أولاد عبد الله بن جعفر: قتل عون ومحمد، ثمانية عشر رجلاً كلهم من بيت رسول الله قد قتلوا في هذه المعركة غير المتكافئة، والعجيب في هذه أن ممن قتل بين يدي الحسين بن علي - رضي الله عنهما - أبو بكر بن علي وعثمان بن علي وأبو بكر بن الحسن ولا تجد لهم ذكراً عندما تسمع أشرطة الشيعة، وتقرأ كتبهم التي أُلفت في مقتل الحسين، حتى لا يقال إن علي بن أبي طالب سمى أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان، أو أن الحسن سمى على اسم أبي بكر، وهذا أمر عجيب جداً منهم.
وعن أنس قال: ولما أُتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين جعل ينكت بالقضيب ثناياه يقول: لقد كان – أحسبه – جميلاً، فقلت: والله لأَسوءنَّك، إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلثم حيث يقع قضيبك. قال: فانقبض.
وفي رواية البخاري عن أنس قال: أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعله في طست، فجعل ينكت عليه، وقال في حسنه شيئاً، فقال أنس: إنه كان أشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان مخضوباً بالوسمة.
ولما وصل نساء الحسين وصبيانه صنع بهما ابن زياد أن أمر لهم بمنزل في مكان معتزل فأجرى عليهم الرزق، وأمر لهن بالكسوة والنفقة.
وتذكر بعض الروايات التي لها ميول شيعية أن ابن زياد أمر بقتل كل من أنبت، ولعل مما يظهر كذب هذه الروايات حينما تذكر أن علي بن الحسين كشفوا عنه فوجدوه قد أنبت، فأمر ابن زياد بقتله ولكن شفاعة أخته زينب وتعلقها به حالت دون قتله، وليس صحيحاً كذلك أن ابن زياد قد أساء معاملة نساء الحسين بعد قتله، أو في ترحيله لهن إلى الشام، فالروايات التاريخية تخبرنا أن أحسن شيء صنعه ابن زياد أنه أمر لهن بمنزل في مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقاً، وأمر لهن بنفقة وكسوة.
ويقول ابن تيمية في رده على بعض كذابي الشيعة: وأما ما ذكره من سبي نسائه والدوران بهن على البلدان وحملهن على الجمال بغير أقتاب، فهذا كذب، وباطل وما سبى المسلمون - ولله الحمد - هاشمية قط، ولا استحلت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هاشمية قط، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيراً، بل المرجح أن ابن زياد بعد أن ذهبت عنه نشوة النصر، أحس فداحة خطئه، وكان ذلك الشعور هو المسيطر على بعض أفراد أسرته القريبين منه، فقد كانت أمه تقول له: ويلك ماذا صنعت؟، أو ماذا ركبت؟. وكان أخوه عثمان بن زياد يقول: لوددت والله أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأن حسيناً لم يقتل: فلا ينكر عليه عبيد الله قوله.
ثامناً: مواقف رائعة بجانب الحسين - رضي الله عنه -:
كانت هناك مواقف رائعة هزت مشاعرنا، وقد سطر التاريخ هذه المواقف لأصحابها لكي يتبين للناس أن في كل زمان شخصيات تقف إلى جوار الرجال؛ تقديراً لمقامهم، ورعاية لحرمتهم، وإظهاراً للحق في مقارنة الرجال إذا واجه بعضهم بعضاً، فهم يقدرون الرجال لمكانتهم الاجتماعية ويفضلونهم على غيرهم، لما يتصفون به من العلم والشجاعة والتقوى ولو كان غيرهم هم الحكام والأمراء، فلا الخوف من الحاكم ينسيهم قدر الرجال، ولا ظلم الحكام ينحرف بهم إلى النفاق والمجاملة، ولا المناصب التي يشغلونها تلهيهم عما يجب أن يكونوا عليه من الصراحة والشجاعة الأدبية ومن هذه المواقف:
1 - موقف الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - رحمه الله -:
فقد امتنع عن استخدام الشدة والقسوة مع الحسين وإلزامه بالقوة أو قتله وقال:... والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسيناً، سبحان الله!، أقتل حسيناً أن قال: لا أبايع!، والله إني لا أظن امرءاً يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة.
وهكذا يقف الوليد هذا الموقف الرائع، وهو أمير المدينة يومئذ، وهو يعلم تماماً أن ذلك الموقف سيؤدي لا محالة إلى عزله عن إمارة المدينة، بل قد يزيد على ذلك، فيؤدي إلى قتله وهلاكه، وهو مع هذا يفضل هلاك الدنيا وزوال الملك والسلطان، على أن يلقى الله بدم الحسين - رضي الله عنه -.
2 - موقف النعمان بن بشير - رضي الله عنه:
وكان أمير الكوفة، فإنه لما بلغه خروج الحسين بن علي - رضي الله عنهما - ووصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة يأخذ البيعة للحسين، قام فخطب في الناس وحذرهم الخروج على الإمام، وأرهبهم من السعي في الفتنة، وذكرهم بما يجره على العامة والخاصة من الخراب والدمار، ومع ذلك كان ليناً مع الناس، وأخبرهم أنه لن يأخذ أحداً بظنه، ولن يقاتل أحداً لم يقاتله، ولكن شدد في نهاية الخطبة، وقال للناس: ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره، لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر. ومع هذا فقد عاب عليه محبو الأمويين هذا الموقف ووسموه بالضعف، وقالوا: إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين، فقال: - رضي الله عنه -: أن أكون من المستضعفين في طاعة الله، أحب إلي من أن أكون من الأعزِّين في معصية الله.
إن رضا الله - تبارك وتعالى - غاية يضحي المسلم في سبيلها بكل غاية، ويبذل في سبيل الحصول عليها كل غالٍ ونفيس، فرضوان الله هو النعمة العظمى التي سيتجلى الله بها على عباده المؤمنين في الجنة، يقول الحق - عز وجل -: ((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (التوبة، الآية: 72).
3 - موقف الحر بن يزيد - رحمه الله -:
وهو أول من لقي الحسين في جيش الكوفة، وهو الذي حال بينه وبين الرجوع إلى المكان الذي أتى منه، ولكنه مع ذلك كان نبيلاً في معاملته للحسين - رضي الله عنه - فقد قال له: أنا لم أؤمر بقتالك، ولكني أمرت أن أخرج بك إلى الكوفة إن وجدتك، ولكني أقول لك: اختر مكاناً لا يؤدي بك إلى الكوفة ولا يعود بك إلى المدينة، ثم أكتب بعد ذلك إلى يزيد بن معاوية أو إلى ابن زياد إن شئت، ولم يكد يصل الجيش وعلى رأسه عمر بن سعد بن أبي وقاص، وتواجه كلا الفريقين، وتأكد الحرّ أن الحرب دائرة بينهما لا محالة، قال الحر لعمر بن سعد: أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال عمر؟ إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي، عندئذ ضرب الحر فرسه، وانطلق به نحو الحسين، وانضم إلى جماعته، ثم قال: يا أهل الكوفة، لأمكم الهَبل، أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه؟!، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، ومنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة الوسيعة التي لا يمنع فيها الكلب والخنزير، وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الذي يشرب منه الكلب والخنزير، وقد صرعهم العطش؟ بئس ما خلفتم محمداً في ذريته، لا أسقاكم الله يوم الظمأ الأكبر إن لم تتوبوا وتتراجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه، واعتذر الحر عن موقفه الأول من الحسين، وقبل الحسين عذره، فلما لامه بعض أصحابه عن الذهاب إلى الحسين قال: والله إني لأخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة غيرها ولو قطعت وحرّقت.
إن الحر بن يزيد - رحمه الله - غير موقفه من الحسين - رضي الله عنه - بعد أن جنح الحسين إلى السلم، ورأى أن موقفه ضده ليس فيه إنصاف ولا عدل، إذ كيف يقاتل رجلاً يدعو إلى السلم، ويطلبه، ويمد يده إلى عدوه ليصالحه، إن الرجولة تقتضي أن يكون الموقف مع هذا المسالم موقف العون وشد الأزر، وإن العقل يحكم بأن الحق مع من يطلب السلم وينشده، والحر يعلم أن الوقوف مع حسين والميل إليه ليس له معنى إلا الموت، ولكنه اختار الموت الذي يوصل إلى الجنة، ومما قيل في الحر بن يزيد التميمي من شعر ما قاله جعفر بن عفان الطائي:
ولم يك فيهم رجل رشيد *** سوى الحر التميمي الرشيدِ
فواحزناه إن بني عليٍّ *** وفاطم قد أبيدوا بالحديدِ
4 - موقف النَّوار بنت مالك الحضرمية:
وهي امرأة خوليِّ بن يزيد الذي بعثه عمر بن سعد برأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد، فلما بلغ خولي الكوفة قصد القصر، فوجد بابه مغلقاً، فتوجه بالرأس الشريف إلى بيته، فوضعه هناك تحت إجانة -والإجانة إناء تغسل فيه الثياب - ثم دخل على زوجته، وآوى إلى فراشه فقالت له زوجته: ما الخبر عندك؟
قال: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك في الدار، فقالت: ويلك جاء الناس بالذهب والفضة، وجئت برأس ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبداً، هذه امرأة انتظرت زوجها طويلاً، ولكن زوجها جاءها بما عكر عليها صفوها، وكدر عليها حياتها، وأفسد عليها انتظارها الطويل، لقد كانت ترجو أن يعود إليها زوجها بأخبار سارة تشرح صدرها، وتملأ عليها نفسها سروراً، نعم، إن عودة زوجها إليها سالماً هي أحسن خبر يحمله لها، ولكنه لم يعد إليها خالي الوفاض من الذهب والفضة اللذين يعود بهما المحاربون عادة فقط، ولو كان الأمر كذلك لسُرَّت بعودته، وسلامته، ولكنه حمل إليها رأس الحسين ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنه يبلغها الخبر بفرحة تدل على رضاه وسروره، أفتفرح هي بذلك؟ إنه لو جاءها بالخبر دون أن يكون مصحوباً بالرأس كان ذلك كفيلاً بزيادة حزنها وأسفها، فكيف وهو يحدثها بالخبر مقروناً برأس الحسين - رضي الله عنه -!، إن كل مؤمن يحزنه الخبر، ويهدُّ نفسه سماعه، لهذا غادرت النوار فراش زوجها، وأقسمت ألا تجتمع معه في بيت أبداً.
تاسعاً: موقف يزيد من قتل الحسين ومن أبناء الحسين وذريته:
كتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بما حدث ويستشيره في شأن أبناء الحسين ونسائه، فلما بلغ الخبر يزيد بن معاوية بكى وقال: كنت أرضى من طاعتكم - أي أهل العراق - بدون قتل الحسين، كذلك عاقبة البغي والعقوق لعن الله ابن مرجانة، لقد وجده بعيد الرحم منه، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين، وفي رواية أنه قال:... أما والله لو كنت صاحبه، ثم لم أقدر على دفع القتل عنه إلا ببعض عمري لأحببت أن أدفعه عنه، فجاء رد يزيد على ابن زياد يأمره بإرسال الأسارى إليه، وبادر ذكوان أبو خالد فأعطاهم عشرة آلاف درهم، فتجهزوا بها، ومن هنا يعلم أن ابن زياد لم يحمل آل الحسين بشكل مؤلم أو أنه حملهم مغللين، كما ورد في بعض الروايات، وقد مر معنا كيف أن ابن زياد قد أمر للأسارى بمنزل منعزل وأجرى عليهم الرزق والنفقة، وكساهم.
وتذكر رواية عوانة أن محفز بن ثعلبة هو الذي قدم بأبناء الحسين على يزيد، ولما دخل أبناء الحسين على يزيد قالت: فاطمة بنت الحسين: يا يزيد: أبنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم – سبايا؟! قال: بل حرائر كرام: أدخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلت. قالت فاطمة: فدخلت إليهن فما وجدت فيهن سفيانية إلا ملتزمة تبكي.
وعندما دخل علي بن الحسين قال يزيد: إن أباك قطع رحمي وظلمني فصنع الله به ما رأيت - وكان علي بن الحسين في معركة كربلاء لم يشترك بسبب المرض الذي كان ملازمه، وكان أثناء احتدام المعركة طريح الفراش فحمل إلى ابن زياد مع بقية الصبيان والنساء - فرد علي بن الحسين على يزيد (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد: 22). ثم طلب يزيد من ابنه خالد أن يجيبه، فلم يدر خالد ما يقول، فقال يزيد: قل له: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30).
وتحاول بعض الروايات ذات النزعات والميول الشيعية أن تصور أبناء الحسين وبناته وكأنهن في مزاد علني، جعل أحد أهل الشام يطلب من يزيد أن يعطيه إحدى بنات الحسين. فهذا من الكذب البين الذي لم يدعمه سند صحيح، ثم إنها مغايرة لما ثبت من إكرام يزيد لآل الحسين، ثم إن يزيد لم يستعرض النساء ويجعلهن عرضة للجمهور من أراد فليختر ما يشاء.
وأرسل يزيد إلى كل امرأة من الهاشميات يسأل عن كل ما أخذ منهن، وكل امرأة تدعي شيئاً بالغاً ما بلغ إلا أضعفه لهن في العطية، وكان يزيد لا يتغذى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين.
وذُكر إن رأس الحسين أرسل إلى يزيد فهذا لم يثبت، بل إن رأس الحسين بقي عند عبيد الله في الكوفة.
عاشراً: رجوع أهل الحسين وأبنائه إلى المدينة:
بعث يزيد إلى المدينة فقدم عليه ذوو السن من موالي بني هاشم ومن موالي بني علي، وبعد أن وصل الموالي أمر يزيد بنساء الحسين وبناته أن يتجهزن، وأعطاهن كل ما طلبن حتى لم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر بها، ثم أمر النعمان بن بشير أن يقوم بتجهيزهم، وقبل أن يغادروا قال يزيد لعلي بن الحسين إن أحببت أن تقيم عندنا فصل رحمك وتعرف لك حقك فعلت. ولكن علي بن الحسين اختار الرجوع إلى المدينة، وأكرم أبناء الحسين وخيّرهم بين المقام عنده والذهاب إلى المدينة، فاختاروا الرجوع إلى المدينة، وعند مغادرتهم دمشق كرَّر يزيد الاعتذار من علي بن الحسين وقال: لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبداً إلا أعطيتها إياه، ولدفعت عنه الحتف بكل ما استطعت، ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني بكل حاجة تكون لك.
وأمر يزيد بأن يرافق ذرية الحسين وفد من موالي بني سفيان، وكان عددهم ثلاثين فارساً، وأمر المصاحبين لهم أن ينزلوا حيث شاؤوا، ومتى شاءوا، وبعث معهم أيضاً محرز بن حريث الكلبي ورجلا من بهرا، وكانا من أفاضل أهل الشام، وخرج آل الحسين من دمشق محفوفين بأسباب الاحترام والتقدير حتى وصلوا إلى المدينة.
قال ابن كثير في يزيد: وأكرم آل بيت الحسين ورد عليهم جميع ما فقد لهم وأضعافه، وردهم إلى المدينة في محامل وأهبة عظيمة، وقد ناح أهله على الحسين.
المصدر: ملتقى نـور الحـق الإسلامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق